في قصر عتيق عاش برسوم حنا الثري الصعيدي رب عائلة اقتصادية وسياسية رفيعة، كان شقيقه سينوت حنا البرلماني الجريء الذي صحب سعد باشا في المنفى وفي مؤتمر الصلح بباريس لعرض القضية المصرية ثم تولى حفيده جرجس كرم أمانة حزب الوفد، وكان بقصر جده خزانة الحزب الحديدية التي تضم حملت اسم أحد المراكز الطبية.
ورصد كتاب «قصور مصر» الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب لـ سهير عبد الحميد، تفاصيل ذلك القصر الذي يعد مستودع أسرار حزب الوفد، فاستقبل صالون القصر الفخم في الطابق الثاني سعد زغلول وعدد من أعضاء الوفد، وراحت حديقته، من أجل شق شارع احمد سعيد الذي كان مجرد حارة ضيقة ليربط بين شارعي صلاح سالم ورمسيس.
وتقول الكاتبة: «كنت في طريقي ذلك اليوم إلى مكتبة الفرنسيسكان، وشاءت لي الظروف أن أخطئ المكان لرؤية هذا القصر العتيق الذي احتلت جانبا من طابقه الأول لافتة حملت اسم أحد المراكز الطبية، عبرت تقاطع شارعي أحمد سعيد والعباسية لأقترب من هذا البناء الذي يحمل عنوان 56 شارع العباسية ودون تدبير مني التقيت المهندس شريف حنا على درجات السلم في بهو القصر وسألته عن أصحاب القصر ففاجأني بأنه أحد الورثة، فاتفقنا على الزمان كي نفتح معا الملفات ونقرأ معا تاريخ المكان، في الموعد المحدد التقيت المهندس المعماري شريف حنا جبرائيل في مكتبه الذي احتل مكانه في جزء من البدروم القديم بالقصر، ساعدني كثيرا كونه حاصلا على دبلوم آثار وماجستير العمارة القبطية في فهم تفاصيل البناء.. قال لي إن رسوم الاسقف تشير إلى سيطرة الطراز الإيطالي على القصر الذي يعود تاريخه كما تشير إحدى الكتابات على أسواره إلى عام 1846، ويؤكد أنه ينتمي إلى تلك الحقبة وعلمها التركي بعلامتيه الهلال والنجمة، والذي يعلو قبته والمؤكد أنه كان ملكا لأسرة الفكهاني حتى عام ١٩٢١م، وقد كان الفكهاني وزيرا للداخلية وكان قد استقر بهذا القصر قريبا من مقر الداخلية التي كانت توجد مكان كلية الشرطة الحالية في عهد الملك فاروق».
ولفت الكاتبة إلى أن: «تشير الأوراق إلى أن القصر آلت ملكيته إلى حسن بك عيد، والذي اشتراه بمبلغ 4000 جنيه في مزاد من البنك العقاري الشرقي عام 1915، ثم آلت ملكيته إلى أسرة السعدي في تاريخ لم تبينه الأوراق إلا أن السجلات تشير إلى أنه ظل بحوزتهم حتى عام ١٩٢١ حيث اشتراه الثري الصعيدي برسوم باشا حنا وقد تم التسجيل الرسمي للشراء في ١٢ من مارس ۱۹۲۳، وتبين أن برسوم باشا اشتراه من عمار بك محمد السعدي ويقيمان بمركز الفشن وكان برسوم باشا قد دفع قبل كتابة العقد مبلغ ٦٢٥٠ جنيها وقام بتسديد الدين الذي كان على القصر في محكمة رهون مصر المختلطة وقدره ٤٣٣٦,٢٤ جنيه وكان تاريخ الرهن يعود إلى 30 من أغسطس ۱۹۱۹ بينما دفع سینوت باشا بعد التسجيل مبلغ 1413.76 جنيه وتم تسجيل العقد الجديد في ، محكمة مصر المختلطة».
الباشا الصعيدي
أما برسوم باشا حنا ميخائيل فهو ثري صعيدي، مسقط رأسه مركز الفشن الذي كان يتبع المنيا بينما يتبع إداريا الآن مركز بني سويف، وكان من أشهر المضاربين في بورصة القطن وقد كان يمتلك قصورا شبيهة بقصره في حي الظاهر، وكان يمتلك 3000 فدان في الصعيد، وما زالت الأحواض الزراعية مسماة في الخرائط المساحية بأسماء أبنائه وأفراد عائلته، وفي الفشن توجد نزلة حنا وهو ابن شقيقه، وعزبة دوس (ابن شقيقه أيضا) لذا فقد تعرض تبعا لقرارات التأميم لنزع الكثير من أراضيه وكان له ١٢٧ فدائًا في القناطر، وتم الاستيلاء عليها بوضع اليد عام ١٩٧٨، وقد كان لبرسوم باشا ذرية كبيرة تكونت من ولدين هما: إبراهيم برسوم الذي توفي في سن صغيرة، وهناك جرجس بك برسوم، أما بناته فهن: إستير وسارة وصديقة وعزيزة ومرتا.
وكان برسوم باشا يعيش في الطابق الأول من القصر وثلاث من بناته عشق معه في شقق خصصها لهن بالقصر، وكان شقيق برسوم.باشا هو سينوت بك حنا الذي كان أحد أعضاء الوفد الذين بلغ عددهم 17 والذين سافروا إلى باريس لعرض القضية المصرية في مؤتمر الصلح بفرساي، كما أنه نفي مع سعد زغلول إلى عدن وسيشل وكان عضوا بمجلس النواب عن دائرة أسيوط في الانتخابات التي أجريت عقب إعلان تصريح ٢٨ من فبراير ١٩٢٢، وكان أهل دائرته يلقبونه بالنائب الحر الجريء، وقد كان برسوم باشا بعيدا عن السياسة، بل كان رجل دين ومستثمرا اقتصاديا.
وكذلك كان زوج ابنته - وكان يدعى بشرى حنا - ماليا معروفا وعضوا بمجلس النواب، وكانت له أياد بيضاء على كثير من الأعمال الخيرية، ولما برزت كفاءته في الشئون المالية والاقتصادية والزراعية أنعم عليه الخديو عباس حلمي برتبة البكوية، وكان كثيرا ما تستعين به الحكومة لحل المشاكل الاقتصادية والزراعية، وطوال تاريخ الأسرة كانت أواصر علاقتها بحزب الوفد قوية كما يؤكد المهندس شريف حنا.
فابن ابنة برسوم باشا ويدعى جرجس كرم كان أمينا بحزب الوفد إبان عهد سعد زغلول وكانت الخزانة الخاصة بالوفد وأوراقه موجودة في قصر العائلة بالظاهر، وقد زار : سعد زغلول باشا برسوم حنا في قصره.
وقد توفي برسوم باشا عام ١٩٣٨ ووزع القصر على بناته، أما ابناه فكانا قد باعا نصيبهما لشقيقاتهما في حياة الأب وقد باع الأعمام أنصبتهم للمهندس شريف الذي ينحدر من سلالة إستير هائم، فاضحي يمتلك الخمس كما ورث ابن خالة والده وقام أحد الأشخاص بشراء نصيبه من الورثة لإقامة مشروع مركز لاستيراد الأجهزة الطبية.
مخازن الحرب العالمية
كان مسطح القصر قبل الثورة يبلغ 1704 أمتار والحديثة نحو ١٢٠٠ م نزع منه عقب الثورة كل مساحة الحديقة ومبنى السلاملك بها عند شق شارع أحمد سعيد ليتحول إلى شارع رئيس بين شارعي صلاح سالم ورمسيس، وكان مبنى السلاملك مكونا من دورين، كان الباشا يقابل فيه النظار المسئولين عن إدارة أملاكه وأراضيه واختفت النافورة التي كانت تزين الحديقة والمشربيات في النوافذ، وتحول إسطبل الخيل الذي كان ضرورة في وقت لم تعرف فيه مصر سوى العربات التي تجرها الخيول كوسيلة للمواصلات إلى محال تجارية، وإلى وقت قريب كانت لا تزال الحلقات الحديدية التي تربط بها الخيول موجودة، ولم يتبق من أثاث القصر الأصلي سوى القليل، منها كونسول خشبي رفيع الذوق ومدفأة صناعة إنجليزي كانت تعمل بالجاز يعود تاريخ صنعها إلى عام ۱۸۸۱.
ويقول المهندس شريف: من الطرائف أننا اكتشفنا في البدروم أماكن لتخزين السكر وصفائح الزيت يعود زمنها إلى أيام الحرب العالمية الثانية، وكانت كلها قد فسدت والقصر كله بني على عروق الخشب عدا الحمامات التي أقيمت على قضبان الحديد، أما الحمامات فكان عزل الأرضيات فيها بالرصاص وكانت كل الأرضيات مصنوعة من بلاط الطيلسان ومقاسه 60*60 سم ويسمى بالحجر المعسراني.
بينما أرضيات الغرف من الخشب أما الحمامات فصنعت جميعها من الرخام، واصطحبني المهندس شريف في جولة داخل القصر، صعدنا سلالمه الرخامية إلى البهو المتسع الذي يتصدره عمودان من الرخام يحيطان بالسلم الذي يوجد في المواجهة أعلاه مرايا كبيرة يحيط بها أبليكان للإضاءة وهي مرايا جديدة، فقد باع الورثة البرواز القديم المذهب عام 1986 بمبلغ 300 جنيه، وكان لهذه المرأة وظيفتان الأولى جمالية والثانية وظيفية فقد كان يسمح لصاحب القصر وهو يقف في الدور العلوي برؤية زائره القادم في البهو من خلال انعكاس صورته في المرأة.
وحاول المهندس شريف جاهدا الحفاظ على طراز القصر بخاصة في شقته التي بها غرفة نوم جده وكرسي مكتبه، فما زالت هناك الرسومات الأصلية من المناظر الطبيعية والزخارف النباتية التي قام بتنظيفها فقط دون المساس بها أما سائر الجدران فقام بدهانها بألوان الدهانات القديمة ليحفظ روح قصر جده الباشا كوريث شرعي وكمهندس فنان مهنته الفن والجمال والذوق الرفيع.