الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

دنيا طارق تكتب: مُرَوَّض

صدى البلد

تجلس على كرسي في آخر الغرفة المظلمة؛ تنتظر ابنها الوحيد، فكاد غسق الليل أن ينتهي وهو لم يعد بعد, تفتقده لكنها لا تعلم ماذا يمكنها أن تفعله حتى تتخلص من هذا الاشتياق, يفيق زوجها من نومه ويتحسس بيده بجواره فلم يجدها, يسند ظهره ثم يضيء قنديلا صغيرا بجواره فيجدها جالسة تستند على كفها هائمة, فعرف أنها استيقظت من نومها كعادتها ولم تجد ابنهما في غرفته فجلست تنتظره وكأنها في كل مرة تشعر أن هذه هي آخر مرة ستراه فيها.

هب من فراشه وتحرك حتى الكرسي الذي يجاورها وجلس, سحب كفها من أسفل ذقنها واحتضنها بكفيه, سألها متحسرًا على ما وصلت إليه من قلق وخوف وحزن:

• متى ستنتهين من انتظاره كل يوم هكذا؟..ابنك قد شب وأصبح رجلًا فاتركيه يعيش كما يريد دون خوف, انتظارك هذا لن يعيده لكِ مبكرًا, هو سيعود حينما يريد أن يعود.

• وأنا لا أمنعه, أنا أريده سعيدا, أعلم أنه سيعود حينما يريد لكني أريد أن يعود ويجدني في انتظاره لأراه قبل أن ينام, أنت ترى هو لا يأتي للبيت سوى للنوم وكأننا لا نعيش معه, منذ أن أنجبته وأنا أشعر أنني لا أعيش معه حقًا, عمره وصل الخامسة والعشرين وأشعر أنني قضيت معه أيامًا معدودة, من قبل كنت أنشغل عنه رغمًا عني لكني الآن أريده بجواري, أريده معي.

حين أنجبته كانت حالتهم المادية سيئة, كأي عائلة زاد فيها فرد فتشعر بالعجز, الأفراد تزداد والأسعار تتضخم والعائد والدخل على حالتهم, وتبدأ رحلة البحث عن مصدر آخر يساهم في تحسين الوضع حتى لو تحسن طفيف لكنهم يقومون بذلك حتى لا يشعروا بداخلهم بتقصير.

بعد أن فُطم وتمكن من أكل الوجبات الخفيفة كالخضار المسلوق الذي تعده له لتتركه معه حيثما تجعله يقضي يومه, قررت أن تتوظف حتى تشارك زوجها البسيط في احتياجات البيت واحتياجات ابنها خاصةً, تذهب به كل صباح قبل أن تتجه لعملها لبيت في نهاية شارعهم تملكه سيدة وحيدة قد جعلت من بيتها مجتمعا صغيرا للأطفال الذين ينشغل عنهم أهلهم فتنشغل هي بهم, ملأت هذا البيت بالألعاب وكراسات الرسم والألوان والمكعبات ليلتهي الأطفال بهم, هي لا تقوم بتربيتهم هي تروضهم على الحياة وطبيعتها, أن يتركوا أمهم رغمًا عنهم ليجتمعوا بأطفال من أعمار مختلفة وبيئات متعارضة, ربما لا يقبلون بعضهم لكنهم يستسلمون لما فُرض عليهم, ينتظرون في هذا المكان الذي يمتلئ بالصراخ والبكاء, فتنة وخبث وحقد غير مقصود يختلط ببراءة الأطفال حين يحصل واحد منهم على لعبة أفضل أو يكون مدللًا أكثر دون عمد. فترى ما أصعب أن يكون هناك تفضيل حتى فيما يفرض علينا.

قررت أن تتركه مع هؤلاء الأطفال لتتمكن من الذهاب لعملها كل يوم دون أن تتركه بمفرده في البيت, تراه كل مرة يبكي ويتشبث بثيابها حتى لا تتركه في هذا المكان وهي تتألم من أجله لكنها تدفعه ليدخل وهي ترى نظرات الأمهات الأخرى تؤنبها على تركها له رغم أنهم يفعلون ما تفعله هي, تحاول اقناع نفسها أن ما تفعله به الآن لمصلحته مستقبلًا, وربما هو وقتها لا يدرك هذا لكن مؤكد أنه حين يكبر سيتفهم هذا, يتفهم أنها تتركه لتوفر له ما لم يستطع توفيره لنفسه في طفولته, تفكر به طيلة اليوم وتفتقده لكنها تخبر نفسها أن ما تفعله هو الصواب, فهي فترة مؤقتة ومن ثم ستتمكن من قضاء أطول وقت معه حين يتحسن الوضع, لكن السنوات جرت أخريات وظل الحال يحتاج لدفعة منها حتى لا يسوء أكثر.

بينما كان زوجها يحاول اقناعها أنه لا داعي لانتظاره، سمعت صوت الباب يُفتح فعلمت أنه أخيرًا عاد لبيته, ركضت للخارج وزوجها يضحك على لهفتها.

خرجت له وحين رآها ابتسم واقترب منها ليقبل جبينها ويدها, ثم أخبرها أنه متعب من يوم طويل في عمله ويريد النوم, حزنت بداخلها لكنها تريد راحته في الوقت ذاته, فدخل غرفته ولم تعد هي لغرفتها وجلست تفكر بحالها وحاله, لا ترى ابنها لدقائق, ماذا يمكن أن يحدث لها أصعب من هذا!

دخل غرفته وجلس على طرف فراشه, منهك من عمله طيلة اليوم, يشعر أنه مقصر خاصة مع أمه حين يجدها تنتظره كل يوم هكذا بسبب عمله, لكن الشعور هذا ينتهي بسرعة حين يتذكر أنه أيضًا يفعل هذا من أجل راحتهم, فهم لم يعودا قادرين على العمل, غير أنه قد روض من قبل على التعايش مع إحساس كهذا, منذ طفولته وهو لم يجد أنه لديه مكان واحد ينتمي له رغم أن بيته موجود وهو ذاته الذي رُبى فيه افتراضًا بأنه البيت الذي سكن فيه منذ طفولته لكنه في الحقيقة رُبى في أماكن متفرقة, قضى أول ثلاثة أعوام بعد فطمه بين ذلك المكان الذي كان يكرهه من ضجيجه وازدحامه وكثرة الدموع التي رآها فيه والدموع التي انهمرت منه خاصة حتى أنه كره البكاء رغم ما يفعله به من راحة, أو بيت جدته وأحيانًا بيت جارتهم, ليقضي معهم يوما طويلا  حتى يعود أبوه أو أمه من عملهم. 

كلما اعتاد على مكان منهم وجد أحدًا ينتشله منه ليضعه في آخر إكراهًا , لم يكن يتفهم فكرة الظروف الصعبة لكن كل ما كان يفهمه حينها أنه فُرض عليه أن يكون في مكان لا يريده وأن يفتقد من يريد وجودهم ليجلس مع آخرين مجبورين مثله وجميعهم يشعرون بالغدر. لم يعد يتعلق قلبه بمكان فبعد أن دخل المدرسة أصبح الوضع أصعب فشعوره كما هو علاوة عليه إجباره على الدراسة. 
 
لماذا الآباء ينجبون أبناءً ماداموا سينشغلون عنهم؟
ينجبون لأنهم يريدون أبناءً تملأ عليهم حياتهم ودنياهم ثم يهملون أن يقضوا معهم وقتا كافيا, أي رغبة هذه؟!
أصبح يفتقد أمه لأنها أمه لكنه لا ينسى تركها له في صغره, رغم أنه نضج وفهم أنها فعلت كل هذا من أجله لكنها إذا لم تكن فعلت هذا كان سيعيش ويكبر أيضًا, ربما مع بعض التنازلات والصعوبات لكنها لن تكون بصعوبة افتقاده لها, ويتمنى أنها لم تفعل به هكذا حتى لا يصل لمرحلة الترويض على تجاوز كل شيء دون الشعور بحلوه أو مُره مثلما يشعر الآن.