الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

مرصد الأزهر يحلل حادث فيينا الإرهابي

صدى البلد

بعد الاعتداء الإرهابي الوحشيّ في مدينة "نيس" الفرنسيَّة (29 أكتوبر 2020)؛ والذي قام به متطرفون إرهابيون، ممَّا تسبَّب في مقتل رجلٌ وسيدتين، وإصابة ستة أشخاص آخرين، تعرَّضت العاصمة النمساوية "فيينا" لحادث آخر أصاب سكانها بالذعر الشَّديد؛ عقب ليلة دامية جرَّاء أعمال عنف وحشيَّة، امتدّ هذا الخوف إلى سكان بعض الدول الأوربيَّة المجاورة، خاصَّة أنه كانت هناك حالة من الاستقرار والهدوء بعد الإعلان عن سقوط تنظيم "داعش" الإرهابي. 

ولكن على الرَّغم من تأكيد غالبية أجهزة الاستخبارات الأوروبيَّة في تقاريرها الأمنيَّة لعام 2019 على تراجع خطر التطرَّف؛ نتيجة لدحر وهزيمة تنظيم "داعش" الإرهابي في سوريا والعراق، إلا أن احتمالية قيام التَّنظيم بعمليات إرهابيّة -كما بيَّن مرصد الأزهر في عدد من التَّقارير- لا تزال قائمة بشكل كبير؛ رغبة منه في إثبات استمراريَّة وجوده على الأرض، بالإضافة إلى الخطر الكبير للعائدين من هذا التَّنظيم الإرهابيّ؛ وذلك لتلقيهم تدريبات عسكريَّة ومشاركتهم في عمليات قتاليَّة في سوريا والعراق.

هذا إلى جانب تهديدات الذئاب المُنفردة والمتعاطفين مع التنظيم الإرهابيّ؛ الذين تستدرجهم الخطابات التحريضية لأبواقه الإعلاميّة لتنفيذ أعمال إرهابيّة في الدول الأوربيَّة. وبالتالي تعمل الجماعات المتطرفة على استغلال الأزمات لنشر أفكارها العنصريَّة، واستقطاب عددٍ كبير من الشَّباب، وكذلك التَّرويج لأيدولوجيتها المتطرفة العنيفة. 

وكانت النمسا حتى هذا الحادث بعيدة عن العمليات الإرهابيّة، ويؤكّد هذا تصريحات طَرفه بَغجاتي، رئيس مبادرة مسلمي النمسا وعضو المجلس الاستشاري للشبكة الأوربيَّة لمناهضة العنصريّة، في مقالٍ له في الصحيفة الأسبوعيَّة النمساويّة "دي فورشه" (Die Furche) وحوار له مع إذاعة غرب ألمانيا (WDR): "أن النمسا بعيدة نسبيًا عن موجة الهجمات الإرهابيّة في أوربا في السنوات الأخيرة. فقد كان يُعتقد بأن فيينا عاصمة دولة حياديَّة في مأمن عن مثل هذه الهجمات مقارنة بباريس ولندن وبروكسل على سبيل المثال". 

ولكن ما حدث مساء الاثنين 2/11/2020 قد غيَّر هذه الفرضيَّة، فقد قام أحد الإرهابيّين بإطلاق النار في ستة مواقع في وسط العاصمة النمساويّة فيينا؛ وهي منطقة حيوية، حيث يوجد المعبد اليهوديّ المركزي وكثير من المطاعم والمقاهي المكتظة بالمواطنين. وقد ارتفعت حصيلة القتلى جرَّاء الهجوم إلى أربعة قتلي، رجلين وامرأتين بحسب آخر المعلومات الصادرة عن السُّلطات النمساويّة، وجُرح في الهجوم ما لا يقل عن خمسة عشر آخرين، غالبيتهم في حالة حرجةً، وفق تصريحات الشرطة النمساويّة، كما قُتِل منفذ الهجوم الذي كان يحمل بندقية رشاشة ومسدس وحزام متفجرات، تبيَّن فيما بعد أنه مزيف.  
 
وأكدت السلطات النمساويّة على لسان وزير الداخليَّة النمساوي "كارل نيهامر"، أن هجوم فيينا "له دوافع إرهابية" وأن منفذه "شخص متطرّف يبلغ من العمر 20 عامًا، وكان يشعر بأنه قريب إلى تنظيم داعش الإرهابي". وأضاف الوزير أن المهاجم سبق أن أُدين في أبريل من عام 2019؛ لأنه حاول السفر إلى سوريا للانضمام لتنظيم داعش، وحُكم عليه بالسجن 22 شهرًا، وحصل بعدها على إفراج مشروط. وذكرت تقارير صحفية أن منفذ الهجوم؛ يسمى "كارتين إس" من "أصل ألباني" ووالديه من مقدونيا الشماليَّة، وقد وُلد ونشأ في العاصمة فيينا، وكان معروفًا لدى المخابرات المحليَّة النمساويّة؛ لأنه كان بين 90 متطرفًا نمساويًّا أرادوا السفر للقتال في سوريا سابقًا في صفوف تنظيم "داعش" الإرهابي. 

وهنا تتبادر إلى الذهن عدَّة أسئلة، فالمتهم ولد وترعرع في النمسا، وتعلَّم في مدارسها، ومع ذلك سقط في شبَّاك التطرُّف، الأمر الذي يدق ناقوس الخطر حول عدَّة أمورٍ، منها توجيه جهود الاندماج بالشكل الكافي إلى الشَّباب، فهذا الإرهابي في مرحلةٍ عمرية خطيرة، وهي التي يتمُّ فيها غالبًا استقطاب الشَّباب للتطرّف، فقد بينت تقارير سابقة لمرصد الأزهر أن أعمار أغلب من يتمُّ استقطابهم من الجماعات المتطرفة تتراوح بين السابعة عشر والرابعة والعشرين، وعليه فإن جهود الاندماج ينبغي أن توجَّه لمن هم في هذا العمر. خاصَّةً وأن المتهم معروف بتطرفه لدى السلطات، كما أنه كان تحت المراقبة. 

كذلك يتبادر إلى الذهن سؤالٍ آخر، كيف لهذا المتهم وهو تحت المراقبة أن يحصل على هذا الكمَّ من الأسلحة الخطيرة؟! وهذا يدلُّ قطعًا على وجود عدّة ملاحظات على الأداء الأمني، خاصَّةً وأن انتقال المتهم في ستة أماكن بهذه السرعة، يشير إلى معرفته الكبيرة بالمكان، وتخطيطه لهذا الهجوم الإرهابي. 

إعلان داعش مسؤوليته عن الحادث
وأعلن تنظيم "داعش" الإرهابي مسؤوليته عن حادث فيينا، حيث قام بالحادث أحد الذئاب المنفردة، وعن ذلك يؤكد مرصد الأزهر أن تنظيم داعش يعرف أهمية الذئاب المنفردة؛ لذا يقدَّم لها خطابًا إعلاميًّا تحريضيًا، وهو الخطاب الذي يسعى من خلاله إلى تحويل الأفراد من رافضين للواقع إلى متمردين عليه، ومن مشاهدين للأحداث إلى مشاركين فيها، والذئاب المنفردة رغم عدم انتمائها تنظيميًّا إلى داعش؛ إلا أنها تأثَّرت بخطابه الإعلاميّ، ونفَّذت عمليات دهس وطعن وإطلاق نار. 

ردود الأفعال داخل النمسا
 وعلى خلفيَّة الحادث الأليم عقد المستشار النمساوي سباستيان كورتس، اجتماعًا مع حكومته ووجَّه كلمة للشعب، أكَّد فيها أن بلاده تعرضت لهجوم "ضد قيمها ونظامها الديمقراطي"، متوعدًا: "سندافع عن ديمقراطيتنا، وسنتعقب الضالعين في الهجوم ومن يقفون خلفه". لكن "كورتس" شدَّد في الوقت ذاته على أن التَّصدي للإرهاب لا يعني محاربة المنتمين إلى "طائفة دينيَّة معينة"، فـ"لا يجب الانزلاق إلى ما يريده الإرهابيون، وهو نشر الكراهية وإحداث انقسام داخل المجتمع بين النمساويين والمهاجرين". وأضاف "يجب أن ندرك أن هذا ليس صراعًا بين المسيحيّين والمسلمين أو بين النمساويين والمهاجرين؛ وإنما هو صراع بين قلَّة تريد العنف وأكثريَّة تريد السلام". وتعهُّد المستشار النمساوي بأن بلاده سوف تدافع عن ديمقراطيتها وحقوقها الأساسيَّة وأسلوبها الليبرالي في الحياة مشدَّدًا على ضرورة الحفاظ على قيم التَّسامح.

وفي الحقيقة يرى مرصد الأزهر لمكافحة التطرف أن تصريحات المستشار النمساوي "سابستيان كورتس" جاءت معتدلة، بعيدةٍ عن الانجراف وراء مشاعر الغضب المتسرعة، وكان في ذلك مبتعدًا عن التَّعميم في تعامله مع الحادث، فقد ابتعد عن حصر المشكلة في الإسلام نفسه، وبالتالي في المسلمين، ولم يوجِّه تهمة الإرهاب بالجملة لمليار ونصف المليار مسلم بسبب عمل فردي لا يمثّل الإسلام ولا المسلمين كما يفعل آخرون؛ ففرَّق "كورتس" في خطابه بين تلك المجموعة المتطرفة الإرهابيّة، وبين المسلمين المسالمين، الأمر الذي نرجو أن يكون عليه جميع السياسيّين والقادة؛ لأن مثل هذا الاعتدال هو ما يحثُّ على الاندماج، ويدعم السَّلام والأمان في المجتمع الواحد، والدليل على هذا هو ما ذكرته تقارير الشرطة النمساويّة من تكريم ثلاثة من الشَّباب المسلمين، كانوا قد خاطروا بأرواحهم، وساعدوا في إنقاذ حياة مصابين من الشرطة والمارة أثناء الحادث.

استغلال اليمين المتطرف للحادث 
مع كل حادثٍ إرهابيَّ في الدول الأوربيَّة تتوقف الكثير من وسائل الإعلام مطولًا عند تداعيات هذا الحادث على المجتمع الأوربي عمومًا، وعلى الجالية المسلمة والأجانب داخل تلك المجتمعات بشكل خاص، حيث تتجدَّد المخاوف مع كل هجوم من انتشار الإسلاموفوبيا وكراهية الأجانب، حيث تسارع الأحزاب اليمينية المتطرفة إلى استغلال تلك الهجمات والجرائم الفرديَّة، التي يقوم بها بعض اللَّاجئين أو الأجانب هنا وهناك؛ للقيام بالمظاهرات والمسيرات لحشد الرَّأي العام ضد اللَّاجئين والأجانب بشكلٍ عامٍ للمطالبة برحيلهم. فتلك الأحداث أكثر ما تضرُّ؛ تضرّ المسلمين في أوروبا، وتفيد الأحزاب اليمينية المتطرفة، حيث إنهم يستغلونها لإثبات نظريتهم الداعية لكراهية الأجانب، بالرغم من تأكيد الخبراء والمسئولين الأوربيّين مرارًا وتكرارًا؛ أن غالبية اللَّاجئين يسعون للاندماج وليسوا مجرمين.
 
دعوة الأديان للسَّلام ونبذ العنف 
وتوالت التنديدات وعبارات الشجب والإدانة من عدد من قادة دول العالم، وعلى رأسهم القادة الأوربيّين، وأكَّد كثير منهم على وجوب التَّفرقة بين أتباع الأديان المسالمين وبين المنتسبين لتلك الأديان والمستعدين للعنف، "فمن يمارسون العنف موجودون في كل الأديان"، وقد صرح بابا الفاتيكان قائلًا: "إذا أردتُ الحديث عن ربط العنف بالمسلمين، فلا بد أن أتحدث عن العنف الكاثوليكي. ليس كل المسلمين يمارسون العنف، وليس كل الكاثوليك يمارسون العنف. من يمارسون العنف موجودون في كل الأديان. أعتقد أنه في كل الطوائف الدينيَّة تقريبًا، هناك قلَّة تمارس العنف، وهي موجودة في ديننا أيضًا.  ليس من العدل ولا من الحقِّ ربط الإسلام بالعنف".  

وكان فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر قد أدان الحادث منذ لحظاته الأولى، وأعلن رفضه التَّام لمثل هذا العدوان الإرهابي الذي خلَّف عددًا من القتلى، مؤكدًا أن قتل نفسٍ واحدةٍ هو قتل للإنسانيّة جمعاء، ومناشدًا كافة الهيئات والمؤسسات الدوليَّة أن تقف صفًا واحدًا في وجه الإرهاب، وبيَّن فضيلته أنه لا يوجد بأيّ حال من الأحوال مبرر لتلك الأعمال الإرهابيّة البغيضة التي تتنافى مع تعاليم الإسلام السمحة وكافة الأديان السماويَّة، داعيًا إلى ضرورة العمل على التَّصدي لكافة أعمال العنف والتطرّف والكراهية والتَّعصب. هذا ويؤكد ما نصَّت عليه وثيقة الأخوة الإنسانيَّة: "أن الأديان الإلهيَّة، بريئة كل البراءة من الحركات والجماعات المسلَّحة التي تُسمَّى حديثًا بـ «الإرهاب»، كائنًا ما كان دينها أو عقيدتها أو فكرها، أو ضحاياها، أو الأرض التي تُمارِس عليها جرائمَها المُنكرة. فهؤلاء قتلة وسفاكون للدِّماء، ومعتدون على الله ورسالاته. وعلى المسؤولين شرقًا وغربًا ضرورة أن يقوموا بواجبهم في تعقُّب هؤلاء المعتدين، والتَّصدي لهم بكل قوة، وحماية أرواح الناس وعقائدهم، ودور عباداتهم من جرائمهم، كما تسالمنا على أن الأديان قد أجمعت على تحريم الدِّماء، وأن الله حرَّم قتل النفس في جميع رسالاته الإلهية".