الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

صناعة كبش الفداء.. محمد رمضان

 

إن كان ليس من السهولة على المرء الاعتراف بالخطأ، فإن الأمر يزداد صعوبة ويكون أكثر تعقيدا على المجتمع، فهو لا يقبل أن يعترف أن ما هو كائن في تفاصيله من عيوب أو مفاسد أو شرور هي ناتجة عن سلوك وتصرفات مجمل أعضائه، ويسعى كل من الفرد والمجتمع في آن على أن يبرأ نفسه من كل هذا، وغالبا ما يكون هذا اللجوء باختيار شخص أو فئة ليحملها أوزار كل تلك الآفات والمفاسد والشرور المنتشرة والشائعة، فبدلا من أن يواجه الفرد نفسه ويعترف بخطئه في هذه القضية أو تلك، وبدلا من أن يبحث المجتمع عن الجذور الحقيقية التي تكمن خلف كل هذه المشكلات العميقة المتجذرة في بنيته، فإنه يلجأ إلى الحل السهل ويقدم كبش فداء يحمله كل ذلك، بل ربما يزيد عليه ما يمكن أن يحدث مستقبلا من شرور وصفات.

وهذا ليس وليد اللحظة، ولكنه متجذر في المجتمعات القديمة التي في اللحظات الحاسمة التي تهدد وجودها تبحث عن كبش فداء يتحمل عنها ما اقترفت من آثام وما صدر عنها من أفعال كانت السبب فيما آلت إليه من حال أصبح يهدد وجودها، وبصيغة اليوم تبحث عن "شماعة" تعلق عليها خيباتها، وتجعلها سبب كل الفشل الذي كان نتيجة حتمية لما اتخذته من منهج حياة وما سلكته من طريق في معالجة مشكلاتها.

والأمم والمجتمعات، كما الأفراد، في سعيها للبحث عن كبش فداء فإنها تبحث عن هذا الذي يمكن التخلص منه دون خسائر كبيرة تصيبها، ودون أن تلحق ببنيتها المستقرة، سواء كان هذا الاستقرار على هذا الشكل مفيدا أو مضرا أو حتى كارثيا، تغييرا جذريا، هذا الذي هو في حاجة إلى أجيال تعقبها أجيال ليتم حلحلة تلك البنية من جذورها.

فكبش الفداء هذا أو الضحية تلك له مواصفات خاصة، يكون على رأسها التأكد من أن القضاء عليه بتقديمه ضحية لن يعود بخسائر كبيرة على الفرد أو الجماعة، وربما يظهر ذلك أكثر ما يكون وضوحا في تلك العصابات الكبيرة التي في سبيلها للحفاظ على بنيتها شديدة التماسك والمعقد فإنها لا تتردد في التضحية بأحد أعضائها، غير المهمين، كنوع من كبش الفداء.

ولعل رينيه جيرارد  (25 ديسمبر 1923- 4 نوفمبر 2015) وهو مؤرخ فرنسي، وناقدً أدبيً وفيلسوف في العلوم الاجتماعية تندرج أعماله في الأنثروبولوجيا الفلسفية، لعله من أكثر من أوضح مفهوم الأضحية وكبش الفداء وكيفية اختياره في كتابه "العنف والمقدس"  والذي ألفه في العام ١٩٧٢، وفيه يؤسس من خلال رصده الدقيق للأساطير المؤسسة للاجتماع البشري القديم؛ سواء بالشرق أو الغرب أو في إفريقيا أو في آسيا أو أمريكا لظاهرة العنف ومسبباته عند الإنسان القديم ومدى تجليات ذلك عند الإنسان الحديث.
والذي يعنينا هنا هو اختيار الضحية الذي يتم بشكل دقيق من قبل الأشخاص اليتامى الذين لا عائلة لهم ولا من يعود للثأر لهم.

ومن خلال متابعتي، التي أزعم دقتها، عبر وسائل التواصل الاجتماعي ألحظ أننا اخترنا كبش فداء لما أصاب المجتمع المصري من شرور وآثام، جميعنا يزعم أنه ضدها، وجميعنا يلعنها جهرا - ويفعلها سرا - وجميعنا، تقريبا، يصوب سهامه، في الغالب، إلى الأعمال الفنية، ويزعم أن الدراما المصرية هي السبب الرئيسي لانتشار كل تلك الصفات التي نرفضها، ونتباكى جميعا على الماضي الجميل، ذلك الماضي الذي عشته أنا شخصيا، وكان يُرَدّد فيه نفس هذه الشكوى ربما بنفس المفردات، بل أكثر من ذلك، حيث كان جهاز التلفاز نفسه كجهاز متهما بنشر الفسق والضلال، وكانت الأعمال الفنية التي ينسبونها الآن لفن الزمن الجميل محل اتهام ونقد لاذع، وكانت منابر المساجد تحذر التحذير الرهيب من الجهاز الجديد "التلفاز" الذي هو سبب مضيعة الوقت وسهر الشباب حتى منتصف الليل، ناهيك عن هذا الخوف والرعب الذي كان يتملك أجيال آبائنا خوفا على جيلنا من هذا السفور الذي تخرج علينا به المذيعات الجميلات والممثلات الأنيقات والفنانات المغريات، وكم من شيخ، وكان على رأسهم كشك، نادى بعدم مشاهدة هذا الجهاز الجديد الذي كان رمزا للشيطان، ومع كل ذلك يعتبر أبناء جيلنا هذا الزمن الذي أصفه لحضراتكم الآن - أيها القراء الكرام – "الزمن الجميل"، ولو توقفت مع حضراتكم عند ما كان يقال على أفلام عادل إمام أو فريد شوقي أو غيرهما من نجوم السينما المصرية لوجدنا نفس القاموس الذي يقال الآن على أفلام وأعمال محمد رمضان، فكم كان التحذير في أوجِهِ من أفلام ومسلسلات المخدرات، وكم كان الخوف من أفلام "الفتونة" والعنف، هي هي نفس الألفاظ وهي هي نفس المخاوف على الشباب والأجيال الجديدة، وإني لأزعم أنه بعد عشرين أو ثلاثين سنة من الآن سوف يخرج الآباء الذين هم شباب اليوم ليتباكوا على زمن الفن الجميل الذي سيرمز له في ذلك الوقت بالفنان محمد رمضان.
لقد تعجبت كثيرا، وزال هذا العجب سريعا، وأنا أقرأ منشورات لجيل أبنائنا وهم يتذكرون برامج الأطفال الخاصة بجيلهم والتي كانت أيضا مرفوضة في حينها، يبدو، بل الأكيد، أن الزمن يصبغ جمالا من خارج العمل الفني عليه على مدار الأعوام والعقود.

كما يبدو أن كل جيل من الأجيال يدافع عن زمنه وعن ما كان فيه من أعمال فنية تلك التي كانت أحد أسباب تشكيل وجدانه، ومن هنا يمكننا أن نفهم هذا الدفاع المستميت على حقب زمنية كان بها ما بها من العور والتخلف والآفات والشرور، فيبدو أن الذاكرة الجمعية لا تحتفظ إلا بتلك اللحظات الجميلة، هذا الذي يصبح تفسيرا لمقولة "الزمن الجميل" التي يصبغها كل جيل على زمنه.

وإن كان ما يتم عرضه في التلفاز من أعمال درامية وأفلام وبرامج هو سبب تلك الأخلاق المتهتكة والأفعال الشاذة والأعمال المنافية للآداب العامة في مصر والتي نسارع جمعينا بعضنا البعض في رفضها واستنكارها ونجرد سيوفنا من أغمادها وسهامنا من جعبتها دفاعا عن تلك الأخلاق المهدرة ومحاربة هاتيك الأعمال المنافية، فإننا هنا نسأل سؤالا بريئا: لماذا لم يكن للبرامج الدينية وهي الأكثر في خريطة كل خرائط الإعلام في العالم، حسب زعمي، نفس الدور الذي لهذه الأعمال الدرامية؟!. لماذا لم تقم هذه البرامج والتي هي مشاهدة بكثرة مذهلة بغرس الخلق القويم والإتيان بالعمل الصالح ونشر الفضائل؟!.
إذاً الأمر ليس بهذه البساطة التي نحاول أن نختزل فيها كل العوامل والأسباب  التي تعتمل في المجتمع المصري لتنتج تلك الحالة التي هي عليه الآن والتي يزعم الجميع، رغم مشاركة الجميع في صنعها وخلقها، رفضه لها، ونبحث عن كبش فداء كما كانت تفعل الجماعات القديمة  لتجاوز نار الفتنة واللعنات التي تصيبها فكانت هذه الجماعات تصطنع مسبباتها في الإجماع على أحد أفرادها بأنه الشخص الآثم والمذنب؛ فيتم الإقدام على تصفيته جماعيا بدون الخضوع إلى أي شكل من أشكال المحاكمة. وحتى إن كان هذا الشخص بريئا، فإن الجماعة تعود بعد التضحية به إلى الهدوء والسكينة، معتبرة، وهما، أن نار الفتنة قد تم إخمادها، هذا الذي نقوم به الآن، إراحة لضمائرنا من ناحية، واستسهالا للحلول من ناحية أخرى، لأن الحلول الحقيقية تحتاج مواجهة صريحة مع أنفسنا، وتحتاج عملا دؤوبا وإخلاصا عظيما، وصدقا تاما، ذلك الذي لا يقدر عليه إلا المجتمعات التي تواجه أنفسها بصراحة ووضوح وتدرك أفعالها، وترغب بصدق في تغيير الواقع.

ولكننا لا نقدر على شيء من كل هذا، فلجأنا لخيار المجتمعات القديمة، وبحثنا عن كبش فداء فيه تلك المواصفات السالفة الذكر، فيمكن التضحية به، دون المساس بتلك المنظومة التي هي من صنع أيدينا، فكان الممثل محمد رمضان هو هذه الأضحية فنظل نلعنها، هذا اللعن الذي فيه فعل السحر فنريح أنفسنا وينفض كل منا يديه مما وصل إليه حال المجتمع ونعود نشارك في إنتاج نفس الحالة ونلعن في المستقبل شخصا آخر نصوره ونجعله  السبب فيما آلت إليه حالنا مرة أخرى ليصبح هو كبش فداء جديد اصطنعناه على أعيننا، كما اصطنعنا محمد رمضان.

 

 

المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط