قال الكاتب الصحفي عبد الرازق توفيق رئيس تحرير الجمهورية فى مقاله اليوم نحن نواجه متغيرات وتحديات خطيرة على مستوى منظومة القيم والمبادئ والأخلاق.. وهناك العديد من الأسباب التي أدت إلى وقوع جرائم يسودها العنف والتشفي.. لتشكل جرس إنذار لمجتمع لا يعرف سوى الاعتدال والتسامح وشعب عرف بالطيبة والصبر الجميل.. لابد من تشخيص دقيق.. ورؤية شاملة وخلاقة للمواجهة والعلاج.
ناقوس الخطر
وكتب الكاتب الصحفي عبد الرازق توفيق رئيس تحرير الجمهورية يقول : ما الذى جرى وحدث لأخلاقنا.. ما هذا العنف والتوحش؟.. هذه ليست أخلاق المصريين ولا طباعهم ولا سلوكياتهم.. فقد عُرِفَ عنهم التسامح والطيبة والعفو و«العشرة» والشهامة والمروءة والكرم والصبر والتحمل.. لكن بالتأكيد هناك أسباب أدت إلى ما يحدث من جرائم هزَّت المجتمع المصرى فى السنوات الأخيرة.
من الطبيعى أن نتوقف بالتحليل والرصد والوصول لأسباب بعض الجرائم التى ظهرت فى السنوات الأخيرة.. وندق ناقوس الخطر وبقوة.. ونسعى للإصلاح وإعادة الحسابات من قبل مجتمع يشعر بالخطر.. ودولة تسهر على توفير الحياة الكريمة للمواطن.. ولاتدخر جهداً أو قراراً فى تخفيف المعاناة عن الناس وتهيئة سُبُل العيش الكريم والسكن اللائق، وإنفاذ سلطة القانون.. وإرساء دولته، وترسيخ العدالة والمساواة والنزاهة والشفافية.
الحقيقة أيضاً أننا أمام تحدٍ كبير، ومهمة شاقة تحتاج رؤية وعملاً شاقاً، وحلولاً شاملة وخلاَّقة من أجل إعادة ترميم المنظومة القيمية والأخلاقية.. وهى أمر يحتاج منا اهتماماً وتدخلاً عاجلاً، وعلى كل المؤسسات الرسمية وغير الرسمية والمجتمع المدنى أن يولى هذه القضية اهتماماً كبيراً.. للوصول إلى تشخيص حقيقى وموضوعي، وبالتالى وضع رؤية شاملة تحدد فيها الأدوار بدقة لمواجهة هذه القضية.
شهد الشارع المصرى نوعية غريبة وجديدة من الجرائم.. فلا يجب أن تمر «جريمة الإسماعيلية» مرور الكرام.. ولا أن يقتل 3 تلاميذ زميلهم ويذبحونه «برقبة زجاجة» بعد التنمر عليه.. لا يمكن أن يقتل تلميذ فى سن الطفولة زميله الذى يجاوره فى «التختة».. ويجب أن نتوقف أمام بعض الجرائم العائلية والأسرية التى تظهر تصدعاً فى منظومة القيم والأخلاق.. وانتهازية.. فكيف للابنة أن تقتل وتتخلص من أبيها لمجرد أنه رفض خطبتها لشاب لا يملك أدنى إمكانات للزواج؟.. لأنه فى النهاية يريد مصلحتها وراحتها، ولكن الشيطان وسوء التربية والأخلاق.. وكيف لمهندس أن يقدم على قتل ابن شقيقته؟
الجريمة ليست شيئاً جديداً على مجتمعاتنا حتى منذ بدء الخليقة.. ولا ننكر أن هناك جرائم وصفت بالبشعة على مدار التاريخ، وحتى فى المجتمع المصري، وكانت صدمة للمجتمع.. وتوقف عندها المصريون كثيراً.. لذلك من المهم أن نتوقف عند هذه النوعية من الجرائم الأخيرة.. ولعل هناك مجموعة من الأسباب أذكرها اجتهاداً من خلال الواقع الذى عايشناه ونعيشه جميعاً.
أولاً: هناك أجيال حالية تمثل جيل الشباب، عايشوا الأحوال المصرية.. منذ أحداث يناير 2011 وحتى انتهاء عصر الإخوان المجرمين فى 30 يونيو 2013 والحقيقة أنه لو افترضنا أن مَن كان عمره 7 سنوات فى 2011 أصبح الآن يبلغ 18 عاماً، ومَن كان عمره 11 عاماً.. أصبح الآن 22 عاماً.. وقس على ذلك.. وفى اعتقادى أن ما شهدته مصر خلال يناير 2011 وحتى ما قبل يونيو 2013 من فوضى وانتهازية وأنانية وعنف وحرق وإرهاب وقتل وسرقات.. وانفلات وفزع ورعب أمني.. انعكس بطبيعة الحال على هذه الأجيال، أو حتى مَن كانوا يتجاوزون سن العشرين عاماً.. فقد أفرزت أحداث يناير 2011 أسوأ ما فى المجتمع.
وعاش الأطفال والشباب فى هذه الفترة الحالة المجتمعية التى وصلت إلى أعلى معدلات التردي.. شاهدوا اللجان الشعبية، والسكاكين والسواطير، والسرقة بالإكراه فى وضح النهار، والسطو على المحلات، والبلطجة وغياب القانون.. وهيبة الدولة.. وتأثروا نفسياً وسلوكياً وهم يرون مشاهد الاعتداء من البلطجية والمتطرفين، ويقفون فى شرفات البلكونات يشاهدون الآباء وهم يقومون بحماية الشوارع والمنازل من حالة الانفلات الأمنى ومشاهد التعدى على مؤسسات الدولة وحرقها وأقسام الشرطة.. والسجون.. وأيضاً جرائم الإخوان الفاشية من تعذيب وتنكيل وسحل ودماء.. بطبيعة الحال يمكننا أن نصل إلى أن هذا التأثر وصل إلى سلوكيات مَن عايشوا هذه الفترة السوداء من تاريخ مصر.. فأصبح القتل والدماء أمراً عادياً كنا لا نراه حتى فى الأفلام.. وإذا كانت موجودة فإن هناك تنبيهاً وتحذيراً بعدم المشاهدة لفئات عمرية محددة.
ثانياً: إن الفترة التى استشرى فيها الإخوان المجرمون فى ربوع وجنبات وشوارع مصر خلال العقود الماضية، رسخت بعض الأفكار والمفاهيم الانتهازية من كذب وخداع ومتاجرة وأنانية ومادية مفرطة، وعندما امتلك الإخوان السلطة ثم عزلهم الشعب بإرادته، زادت وارتفعت وتيرة الإرهاب والعنف والعمليات الإجرامية، وأصبحت مشاهد القتل والدماء مألوفة فى الشارع المصري.. ويستيقظ المصريون ومنهم الأطفال والشباب على أخبار القتل والعمليات الإرهابية.. حتى فى وجود الإخوان المجرمين فى السلطة.. كان السحل والتعذيب والتنكيل والدماء حاضرة دائماً.. فمن ينسى منا مشاهد التعذيب على أسوار الاتحادية فى عهد المعزول المقبور محمد مرسي.. وكشف الإخوان عن وجه الشيطان الذى يمثل عقيدتهم الإرهابية فيما حدث فى قسم كرداسة بارتكاب أبشع أنواع الإجرام فى وضح النهار، حتى الصيام فى شهر رمضان الكريم لم يشفع عندهم للتوقف عن ارتكاب هذه الجرائم البشعة.. كل هذا الإجرام الإخوانى بطبيعة الحال انعكس على سلوكيات الأطفال والشباب، وربما نرى حصاده المر الآن فى الميل إلى العنف وعدم تقبل لغة الحوار والتسامح.
الأمر الأخطر.. أن البعض من الفئات البسيطة التى تم خداعها والتغرير بها ظن أن الإخوان المجرمين يمثلون الدين، وبعد سقوط أقنعتهم الشيطانية جاءت الصدمة الكبرى فى الاتجاه إلى عدم الثقة فى الجميع.. وهو ما يجسد خطورة تداعيات وجود الإخوان المجرمين خلال العقود الماضية.
ثالثاً: أيضاً لا يمكن أن ننسى أو نتجاهل العقود التى سبقت يناير 2011 وما حدث بها من تسطيح وقيم وسلوكيات استهلاكية ورداءة المنتج التربوى وافتقاد النموذج والمثل والقدوة.. وسوء الأعمال الفنية والدرامية والسينمائية التى كانت تتفنن فى تشويه المجتمع.. والاهتمام بالنماذج المجتمعية سيئة السمعة مثل تجار المخدرات والفاسدين والراقصات والمقاولين من أصحاب الذمم الخربة.. وتجار قوت الشعب والبلطجة، حتى أصبحوا نماذج موجودة أمام الشباب والأطفال الصغار.. فى حين تركت رؤى مهمة عن القيم والأخلاق والمبادئ والنماذج المشرفة من العلماء والشهداء والأبطال والشرفاء الذين يرفضون الثراء الحرام، وتركت الساحة للتافهين والمسطحين وانتشرت اللغة السوقية.. وابتلينا بثقافة «التكاتك» فى ظل وجود ظاهرة المخدرات والإدمان.. ووجود أدوية تصلح بديلاً لها.
رابعاً: دخول الإعلام الجديد أو«السوشيال ميديا» التى لا تؤمن بقيم أو مبادئ أو ميثاق شرف أو أخلاق أو دين.. وأطلقت العنان للأكاذيب والشائعات والمساس بحرمات الناس وعوراتهم.. وحياتهم الشخصية.. والتفنن فى مشاهد القتل والدماء.. وعرض جرائم وفيديوهات الميليشيات والتنظيمات والجماعاتا الإرهابية، حتى بات هذا الأمر يقُضّ مضاجع المجتمعات، ويهدد أمنها واستقرارها، ويخلق أجيالاً مثل المسخ أو الوحش الكاسر.. ويقدم للمجتمع إنساناً بلا مضمون، أو ضمير أو مبادئ آدمية، أو الحد الأدنى من التسامح.
خامساً: انتشار الدراما والإعلانات التى تجسد طبقة تعيش حياة الرفاهية والثراء، وهو الأمر الذى يخلق لدى الطبقات الأخرى حالة غير واقعية من التطلعات والسخط وعدم الرضا عن الحياة.. بالإضافة إلى تركيز الدراما على النماذج المرفوضة فى المجتمع مثل البلطجية وتجار المخدرات، وترسيخ ثقافة القوى يأكل الضعيف، والبطل الذى يقتل الجميع.. وهذا خطر فى ظل غياب الأعمال الرومانسية، أو التى تجسد المنظومة القيمية، والأخلاقية وتحمل رسائل مهمة لأمن واستقرار المجتمع، وفيها العظة والعبرة على غرار الأفلام فى الماضى التى كانت تنتهى بآية قرآنية أو عظة أو حكمة.
سادساً: انتشار الثقافة الاستهلاكية «الدليفري» التى تخاطب الغرائز والشهوات، وأصبح الوصول إلى اللحم الرخيص أمراً أيسر ما يكون فى ظل ما هو موجود ومتاح على وسائل الإعلام الجديد، وبالتالى هذا يخلق أنواعاً وأنماطاً اجتماعية تعانى الخلل.. إضافة إلى بعض وسائل الإعلام التقليدية تغذى التفاهة، وترسخ لخطاب شاذ وغريب عن المجتمع مثل: «الزواج عبر تطبيقات الموبايل».. بدلاً من ترسيخ الفضائل والقيم والتقاليد والعادات والقيم المصرية الأصيلة .. وتعاليم الأديان السمحة.
سابعاً: هناك ظاهرة هى الأخطر.. ألا وهى اكتفاء المواطن بالفرجة والمشاهدة والتصوير فى مواجهة بعض الجرائم.. فكيف نشاهد مواطناً يغرق.. ونجد أن هناك من يصورون بالموبايلات.. وأيضاً جرائم القتل والاعتداء فى الشارع.. الناس تقف للتصوير والمشاهدة و«التشيير».. لذلك أين ذهبت المروءة والشهامة والرجولة التى قد يدفع البعض ثمنها دفاعاً عن إنقاذ فتاة، أو حياة مواطن، حتى لو كان مذنباً، فلا يمكن أن يحصل المواطن على حقه «بدراعه» كما يقولون، فتلك ثقافة الغاب.
ثامناً: أعتقد أن تأثير الإدمان والمخدرات وهناك من يتحايل على الصيدليات بـ«روشتات» مضروبة من أجل الحصول عليها.. وهناك من يقتل ويسرق أيضاً من أجل الحصول على المخدرات.. وهناك أيضاً جرائم ارتكبت فى حق الأم أو الأب.. كانت تحت تأثير المخدرات.. لذلك علينا أن نتوقف كثيراً أو طويلاً أمام تجفيف منابع المخدرات، وأيضاً إجراء الكشف الدوري، ويصبح أساسياً فى الحصول على أى خدمة أو فرصة عمل أو الالتحاق بالجامعات، أو حتى الانتقال من مرحلة دراسية إلى أخري.. فالطالب وهو ينتقل من الإعدادية إلى المرحلة الثانوية لابد أن يكون لديه تحليل مخدرات معتمد من وزارة الصحة لا غيرها.
وهناك تساؤل، ربما يكون غريباً: هل هناك تأثير للمنشطات أياً كانت التى يتناولها الآباء أو الشباب على زيادة جرعة الإقبال على العنف؟!.. هذا السؤال أطرحه على المتخصصين.. وهل نوعية الغذاء الجاهز والوجهات السريعة و«الدليفرى» أو المحفوظ له تأثير على ذلك الاتجاه؟!..
وربما يسألنى البعض: أى نوع من المنشطات.. أقصد المنشطات الجنسية أو المنشطات التى يزعم البعض أنها تزيد اليقظة والنشاط، وتقلل من الإجهاد.. أو لزوم الاستمرار فى العمل.. أو المنشطات التى يتناولها الشباب لبناء العضلات.. لابد أن نراجع هذه الأمور.. ولا أجزم أن لها تأثيراً، ولكن مجرد سؤال وطُرح.
لكن ما هو الحل؟!.. كتبت من قبل عن أهمية أن يقوم الإعلام والفن والثقافة بضبط إيقاع المجتمع، وهنا أضيف أنه لابد أن تقوم هذه المؤسسات الثلاث بدور مهم فى تخفيف جرعة العنف، ونشر قيم ومبادئ وأخلاق وفضائل ترسخ التسامح والعفو والاعتدال، ولغة الحوار.. فالإعلام لا يجب أن يقدم النماذج التى ترفع شعار العنف أو البلطجة أو الانتهازية، ولابد من عرض المسلسلات الاجتماعية والرومانسية والدينية والوطنية.. أو التى ترسخ هوية المصريين.
الأمر الثانى والمهم.. أن تعود الأسرة للاهتمام بالتربية الصحيحة وخلق الأجواء المناسبة لأبنائها.. وتفريغ طاقاتهم فى أنشطة مفيدة على كافة الاتجاهات، مثل الرياضة أو الاهتمام بتعاليم الدين ومبادئه وقيمه، وتحفيظ القرآن وفهمه، لأن القرآن يضيف لحامله الصفات الحميدة إذا توافر الفهم الصحيح لمقاصده وتعاليمه.
الأمر الثالث والمهم.. قيام المؤسسة الدينية بدورها فى الاهتمام بصياغة خطاب دينى يرسخ الفضائل والمبادئ والأخلاق، ويكثر من تناول مثل هذه القضايا وأن الدين يحث عليها، ويرسخ فى الناس الاعتدال والتسامح والحوار والأخلاق الحميدة، فالمولى عز وجل وصف نبيه بقوله: «وإنك لعلى خلق عظيم».
الأمر الرابع.. من المهم استعادة دور المدرسة والارتقاء بالمعلم ليكون النموذج والقدوة للتلاميذ والطلاب.. وأن يحرص على ترسيخ الفضائل والمبادئ والقيم والأخلاق النبيلة، والأمانة، والمسئولية فى وجدان وعقول التلاميذ، إضافة أيضاً إلى أهمية تعظيم دور «حصة الدين» فى المدرسة على يد معلمين لديهم قدرة على حسن التواصل والعرض للقضية بأسلوب جذاب ومشوق.
الأمر الخامس.. إبعاد الأسر لأبنائها عن الألعاب الإلكترونية «Games» التى لا تهتم إلا بالقتل والسلاح، وتحدث نوعاً من العنف الداخلى فى أعماق ووجدان أطفالنا.. وإذا كانت لدينا القدرة على التخلص من هذه الألعاب العنيفة والقاتلة، واستبدالها بألعاب أخرى ترتكز على تعليم القيم والمبادئ والتطوع والإنسانية، والأخلاق والشهامة والمروءة.. أيضاً لماذا لا يركز الإعلام من خلال حملات ورسائل قصيرة على إيقاظ قيم المجتمع المصرى الأصيلة من النخوة والأخلاق الكريمة؟
الأمر السادس.. تشديد الرقابة على الصيدليات وإعلان الحرب المقدسة ضد كل أنواع المخدرات.. وتسهيل فرص العلاج والشفاء للمدمنين من المخدرات.. والتوعية بخطورتها.. وتداعياتها من خلال حملات إعلامية مكثفة.. وتناولها بشكل مختلف فى أعمالنا الدرامية.
الأمر السابع.. القضاء تماماً على مظاهر الفحش والابتذال الفنية.. وغناء المهرجانات، والألفاظ السوقية.. والفن الاستهلاكى الرخيص وتقديم فن راقٍ يسمو بوجدان الناس ومشاعرهم.. وإقامة مهرجانات الفن، والطرب الأصيل.. وتمكين الشباب من مشاهدة الأعمال الراقية وعدم التركيز على الربح والعوائد بقدر ما نركز على الارتقاء بالذوق العام والوجدان المصري.
كذلك تشديد الرقابة على الإعلام الجديد إذا كان فى الإمكان أو الاتجاه إلى حجب مثل هذه الأنواع من الإعلام على غرار بعض الدول، لأن احتلال العقول أخطر من احتلال الأرض.. لأن الأول يهدم دولاً وأوطاناً، ويشرد شعوباً.. ويدمر هويتها ومنظومتها العلمية والأخلاقية.
تحيا مصر