مسرحية على الكوبري

من يستخدم كوبري أكتوبر في الصباح الباكر أو قيظ الظهيرة أو قبل أو بعد منتصف الليل، وأتصور أن الغالبية العظمى من المصريين - وغيرهم – يفعلون ذلك، هؤلاء لابد أن يلحظوا هذا المشهد التمثيلي الردئ ضمن مسرحية ذات نص واضح يؤدى على مرمى البصر من كافة أجهزة الدولة، الذي مع الأسف بعض من بين المواطنين الكرماء مرهفي الأحاسيس من يصدقه ويتعاطف معه.
ويتجلى ذلك المشهد ويجسده عدد من عمال النظافة بملابسهم الرثة، وهم يتسمرون في أشد النقاط ازدحاماً فوق الكوبري معرضين أنفسهم للخطر، وكذلك قائد السيارة في حالة من الفوضى، يمثلون انهماكهم في العمل وفي الحقيقة أنه لا عمل لهم، يمثلون بطريقة رديئة للغاية وبعضهم يستأجر الزى الذى يرتديه – المهم ينظفون سطح الكوبري من لا شئ، نعم فالكوبري نظيف تماماً، ومن الصعب أن يلقي عليه المارة أية مخلفات، ويحاول عمال النظافة – وهم كثيرون – لفت انتباه المواطنين من ركاب السيارة بأية وسيلة، إن لم يكن بالحركات التي تقطع القلب، كأن يمسك بيده" لقمة عيش حاف" أو سميطة وقرن فلفل ويبالغ في قضمها، أو يتظاهر بتجفيف عرقه نهاراً ـ ونحن دخلنا في فصل الشتا، أو حركات من هذا القبيل..
.. ألا يستوقفكم هذا المشهد في حياتنا اليومية؟
ألا تتعاطفون مع آباء وأجداد، لهم أبناء وأحفاد، يعرضون أنفسهم للمذلة والهوان.. يسألون الناس إلحافا .. ويستدرجونهم بالتمثيل والتحايل.. ويهدرون كرامتهم ويخسر المجتمع قوتهم الفاعلة؟
هل كان بمقدور التعداد السكاني وأبحاث الجهات الرسمية ومنها مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار، هل سيكون في مقدوره، أن يضع الأرقام الحقيقية لهذه القوة المهدرة أمام أعين المسئولين والباحثين؟
هل سيكون في استطاعته مثلاً أن يرصد - بالأرقام – حقيقة الأعمال الهامشية التي يعمل بها البسطاء والمهمشون، تلك الأعمال التي لا تتناسب أبدا مع قوتهم البشرية الضائعة في أشكال مستحدثة من التسول، ومع طاقاتهم المعطلة، فمن المحزن أن يقف رجل في كامل لياقته الصحية والبدنية على أحد الكباري، أو أمام أحد المصالح الحكومية، أو في ميدان حيوي، حاملاً أدواته وبضاعته التي هي مقشة ومقطف وشوية تراب تندهش من أين جاء،.. لا ألوم أحداً، لأن غول البطالة والفقر افترس معظم الأسر المصرية، وأصابها في مقتل، وأصبح المحظوظين هم فقط الذين يجدون أعمالاً، وأصحاب الوسايط هم الذين أخذوا ما يطلبون بأقل جهد من أولئك الذين يمكن أن يطلق عليهم الناجون من النار.. نار البطالة المرعبة ونار الفقر والعوز.
واذا استمر التجاهل سندفع الثمن باهظا.. ثمن التغاضي عن الالتفات لهذه الظاهرة، والعمل الجاد على سد هذه الفجوة قبل ان تتسع رقعتها، لابد وان نشجع تحويل المسار للمهمشين، وأن نحفظ لهؤلاء المصريين كرامتهم، عن طريق تمهيد الطريق أمامهم لخوض أعمال تتسم بالإنتاج وتحقيق حد أدنى يصون لهم كرامتهم، بعد ذلك نعلي من تطبيق القانون بكل قوة، فلو كان هؤلاء المواطنون مسجلين بالفعل في هيئات النظافة وأعطيناهم ما يغنيهم مر السؤال، فمن القانون ما هو كاف لردعهم، مع وقف تراخيص الأعمال الاستهلاكية التافهة التي أصبحت نافذة خلفية أيضا للتسول مثل مطاردة الناس بالبخور واللبان والليمون والنعناع والعطور الرديئة في مظهر غير حضاري لمصر، باعتبار أن القليل منها يكفي.. وفتح أبواب الأمل في عمل حقيقي يخدم الطرفين: كرامة المجتمع و رفعة الدولة.
[email protected]