الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

نهى مجدي تكتب: ندبات خفية.. قصة قصيرة

صدى البلد

كعادتها كل صباح تقف أمام المرآة تتلمس ندبها الظاهر أسفل عينها اليسرى تضغط عليه فتئن بوهن، تفتح أدراج مرآتها الصغيرة، وتُبعثر محتوياتها وكأنها تبحث عن شئ مُبهم ثم تستسلم فى النهاية، وتمد يدها المرتعشة لأحد الأدراج تُخرج علبة صغيرة بيضاء اللون، كُتب عليها " خافى العيوب "، تفتحها ببطء وتنهل من ذلك الشئ الموضوع بداخلها والذى أوشك على النفاد، فكانت كلما وضعت إصبعها الصغير وتلمسته تذكرت معه كل تلك الندوب السابقة والخيبات المتتالية والألم والبكاء والجراح والسأم، كلما أمسكت به واقتربت رائحته المميزة من أنفها تساقطت معه عبراتها الحارة تخبرها أنه سينفد يومًا ما، وستبقى ندوبها ظاهرة جلية، تخبرها كل صباح أنها حقا مُنهكة.

وإن كانت تلك ندوبنا الظاهرة فما بال المستتر منها، كيف لنا أن نُمحي جُرحا قابعا فى القلب يأبى الاندِمال، ليُحدث ضجيجا دائمًا وصخبا يسري فى العروق، يجعل من الصعب تجاهل تبعاته، وكأنه يصر على إنعاش ذاكرتنا طويلة المدى لتتذكر كل ما حاول القلب إخفاءه.

حرب سجال لا تنفك أن تنتهى أبدا يدخلها العقل بشراسة المقتنص وبراعة المحارب، يعلنها دائمًا على القلب، ذلك المسكين القابع فى مرقده يتحمل الطعنات ويئن فى صمت كغزال شرد عن قطيعه واخترق جسده أنياب الأسود الهائجة، فظلت تمزقه بلا هوادة، وهو ملتف حول نفسه لا يقوى حتى على البكاء، فلم لا نتركه يعاني فى صمت دون أن نواجهه بخيباته دائما.

أيظن العقل أنه لا يدري عنها شيئا أو ربما حدثت دون أن يشعر بها !! فمن ذلك المتألم الذى بات ليلاته يُمزقه الحنين وينبض اشتياقا، حتى كاد أن يصرخ مناديا باسمه، وكنت أنت أيها العقل المُدعى من يُجبرة على الصمت، ألا تتذكر يوم أن كاد يخترق جسدى ليذهب إليه، واستسلمت أنا له فى خنوع، ولكنك أبيت الاستسلام، وتعمدت أن تُذّكره بكل العقبات التى حاول تجاوزها، ألست أنت من أحضر له لمحات من الماضي، تلك التى عمل جاهدا على إخفائها في ذلك الجزء المعتم من الذاكرة، يوم أن تباعدت الأيادى وتساقطت العبرات، ويوم أن اختفى عن ناظري إلى الأبد منذ سنوات، ويوم أن تقدم "يوسف" لخطبتي وتضرعي ليلا ونهارا ألا يحدث ذلك .. ولكنه فى النهاية حدث!

لا أدرى هل كان عقابا إلهيا يستحق الاستغفار أم ابتلاءً يستحق الصبر، لم أدرِ وقتها لما حدث ذلك، ولكن بعد أن بلغت ثورتى عنان السماء في النهاية صمت وتركت كل شئ يحدث كما هو مقرر له.

لا أدرى هل كان خنوعا أـم انتقاما، ولكنى أتذكر لحظة استسلامي جيدا فهي اللحظة التي انتهى عندها كل شيء، انتهت السعادة التي كنت أحيا بها كلما رأيته.

كانت عيناي تشتعل ويعكس بريقها روحا ترقص كالفراشة، لا تهاب السقوط فأصبحت منطفئة منكسرة، لا تقوى حتى على النظر فى عيون الآخرين، وكيف تنظر لمن يقتلوك يوميا تحت مسمى الحياة، كانت يدي الصغيرة تطرق الأبواب وهي تعزف سمفونيات الغرام وتصافح كل يد حزينة، تمر أمامها لعلها تنقل إليها بعض تلك السعادة التى يضخها القلب وتستنشقها الأوردة، لكنها الآن واهنة مرتعشة، يسقط منها ما تحمله تخشى المصافحة كما تخشى الاقتراب.

أصبحت روحى المتأججة باهتة قاتمة مندثرة شبحا يسير على الأرض، كل من يمر من خلاله يشعر بالحزن والتيه، هكذا أصبحتُ أنا لحظة استسلامي.

أتذكر جيدًا لحظة افتراقنا.. أتذكر كل التفاصيل، ماذا ارتديت وقتها؟ وماذا قلت؟ وماذا قال؟ أتذكر الحديث وحتى الصمت، كنت أقف أمامه باكية، وكان ينظر لى بشفقة وشفتاه ترتعشان من الغيظ، أخبرته أننى سأتزوج ولن أراه مرة أخرى.

كان يعتقد أنني من يريد هذا، ولا يعلم أننا لا نريد بل نسير على خطوات يرسمها لنا الآخرون، أتذكر عينيه وهي تنظر لي نظرة لم أفهمها، فكانت خليطا من الحب والغضب والتمرد حينها، قال جملة واحدة فقط: "اطمئني لن أكون عبئا بعد اليوم يا سارة، ولن تتلاقى وجوهنا مرة أخرى".

قالها وانصرف وتركنى أتمزق ويحترق داخلى عشقٌ بائد تاركًا خلفه رماد تطاير ليُخفى كل من سكن بجواره.

كنت أعلم أنه يتألم ولم يكن يعلم أنني أحترق لذلك لم نتلاق بعدها، ويوم أن أعلنت استسلامي أعلن هو سفره المفاجئ للأبد، يومها قرر أن يترك كل ذكرى تجبره على التذكر، ولكنى تمسكت بهم جميعا.

اعتدت أن أذهب لذلك المكان الذى آوى مشاعرنا الأفلاطونية العذراء، يوم أن رأيته ويوم أن ابتسم لى ويوم وقف بين يداى، يخبرنى أنه العاشق الوله فهل لى أن أومأ له؟! 

كنت أحدثه كل ليلة وأقص له ما يحدث لي فى تلك الحياة الظالمة، كنت أبكى وأنتظر يداه تحتضنني لتسكن روحى وتستريح، ولكني كنت أجد الخواء في النهاية، كنت أشتري عطره المفضل وأتعطر به لأوهم نفسي أنها تعلقت بثنايا جسدي بعدما تلامست أيدينا، عشت الوهم بكيانى كله حتى أهرب من حقيقتى الباهته، ولكن فى النهاية كان عقلى ينتزعنى من خيالى بقوة ويطرحنى أرضا بألم مبرح.

ويحٌ لك أيها العقل الغاشم عديم الرحمة، ألا تسمح لروحي الشاردة أن تشعر ببعض السكون ولو كان سكونا زائفا؟ كلما حاولت التمرد أعدتنى للاستسلام، وكلما حاولت الهروب ذكرتنى بمخاوفى سحقا لك.. ولى.

ولكن لما الانصياع خلفك وأنا أستطيع بكل سهولة أن أنتزعك فتتوقف تلك السخافات التى تبثها لقلبي المسكين، فما أنت سوى ظلمة تقبع داخل جسدى تمنع عنه السعادة، ألا تستطيع أن تخبرني أين تكون وأنا أتألم كل ليلة جراء ندباتى وجراحي.

ألم تعلم أنه سادي يتغذى على الجروح والآلام، يشعر بالانتصار كلما ارتفع صراخي، يتوعدني كل ليلة بسنوات من العذاب، يعلم جيدا أنني أخافه فلا أشعر معه سوى بالانكسار والتحطم، ولم يحاول هو أن يُشعرني بالعكس، بل أصر على تأكيد ذلك الشعور يوميا، وها أنا أقف الآن كما أقف كل صباح أحاول أن أخفى آثار ضرباته وركلاته، ولكن كيف لى أن أخفى أثرها فى نفسى وقلبى.

أخبرنى ماذا أفعل ومتى سينتهى هذا؟ أخبرنى لمَ عليّ التحمل؟ أخبرني لِمَ لا تتدخل أنت كما تتدخل دوما كلما تذكرت "خالد"... ذلك القلب الذى عشقنى كما لم يعشق أحد من قبل.

الآن تصمت! كيف لك أن تصمت وأنا بداخلي كل هذا الصُراخ، تُعد أكاذيب جديدة، توهمني أن القادم أفضل، إلى أن تشعر بالشفقة على حالى.

كفاك تواطئا، وكن معى مرة واحدة فقط، أتدري أنني أعلم جيدا أنك منساق خلفه، توافقه فيما يفعل، تتلذذ بعذابى الدائم، تُخرجنى من جنتى لناره الشعواء، ولكني لن استسلم لك بعد الآن، لابد لى أن أنتهي منك أولا ثم أنتهي منه هو الآخر، ولكني لا أستطيع أن أبدأ به وأنت بداخلى فستظل دوما تذكرني أننى لا أستطيع فعل شئ آخر سوى الخنوع.

سأتخلص منك أولا، وهكذا يظل قلبى متفردًا ومسيطرا  على كيانى كله، نعم لقد وردتني خطة جيدة جدًا، لِمَ لا أستخدم ذلك المسدس الذي يخفيه "يوسف " فى درج مكتبه، وأصوبه نحوك وأضغط على الزناد بهدوء تام وابتسامة واسعة، وقتها فقط ستتفتت وتختفي وتخرج من قلبى الزهور والفراشات تملأ جسدي كله، وستعود معها سعادتى بالتأكيد، كيف لى ألا أفكر فى ذلك الأمر من قبل؟ سأذهب الآن لتنفيذ تلك الخطة، قبل أن يعود زوجى وبعدما أتخلص منك سأتخلص منه وأعود لحبيبي الغائب وعشقى الدائم.

ها هو ذاك المسدس المستتر داخل وريقاته الزائفة أخرجته وأمسكته بيدى جيدا، يبدو عليه القوة والجَلد، أتعشم أن يتم مهمته على أكمل وجه، حمدا لله وجدته ممتلئا بتلك الرصاصات الفضية.
 
أتذكر أنني لابد أن أرفع زر الأمان وأن أصوبه لمنتصف رأسى بالتحديد.. الآن ستتحرر روحى وسأستعيد سعادتى.. لحظات فقط سأقوم بالضغط على الزناد لأدمر ذلك العضو اللعين ثم سأعود لكتابة تفاصيل ماشعرت به وقتها.. بالتأكيد سأعود سعيدة وستشعر روحى بالهدوء الذى طال انتظاره ... بالتأكيد سأعود.


-