الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

أمة الحمام


الحمام هو ثالث أذكى مخلوق على وجه الأرض بعد الإنسان والشمبانزي، له مكانة روحية خاصة، وشهد له العلماء بالرقة والنظافة وقلة نقله للأمراض.

تاريخيا، تذكر الرسالات السماوية أن سيدنا نوحا كان يرسل حمامة لتستكشف انحسار الطوفان، وفي مرة عادت لتبشره حاملة بمنقارها غصن زيتون دلالة على تراجع المياه وظهور الأرض، ومن هذه القصة الجميلة أصبحت الحمامة رمزا للخير والسلام في عالمنا الحديث.

وفي موقف آخر، عششت حمامة على باب الغار الذي اختبأ فيه الرسول (ص) وصاحبه أبوبكر يوم هاجرا من مكة إلى المدينة لتضلل الكفار، وإلى اليوم، لم يفارق "حمام الحمى" ساحات الحرم المكي والمدينة المنورة.

تكرار مثل هذه المواقف الروحانية للحمام دفعت الكثير للاعتقاد بأن حمام الحمى هذا، مبارك ومن نسل حمامة نوح وحمامة الغار، وربما أيضا طير الأبابيل الذي أهلك أبرهة ومن معه عندما قدموا لهدم الكعبة!

علميا، ينتمي الحمام إلى الفصيلة الحمامية التي يزيد عدد أنواعها على الثلاثمائة، تتفاوت أحجامه وتتعدد ألوانه، من أبرز أنواعه البري والداجن ذوات الأحجام الكبيرة نسبيا ويغلب على ألوانها الرمادي والأزرق والبني، وحمائم أصغر كاليمام العادي والمطوق (القمري)، والكثير منها يحسن الغناء (الهديل) وذكرت في أشعار كثيرة لشوقي (حمامة الأيك)، وأبي العلاء المعري في قصيدة "تعب كلها الحياة":
أبكت تلكم الحمامة أم غنت ** على فرع غصنها المياد

لن نتوسع في شرح أنواع الحمام والأشعار التي قيلت فيه، فما يعنينا هنا هو الجانب العلمي لهذه "الأمة".

اقتصاديا، لحم الحمام من أشهى الوجبات، وفضلاته من أجود المخصبات الزراعية، ووراثيا، لم يتم حتى الآن تحديد نسبة مشاركته للإنسان في الحمض النووي، وهي بالتأكيد أقل من مشاركة القرود، لكن الثابت اشتراك الحمام مع الإنسان في جينات الموسيقى والعواطف وتنظيم الحرارة.

ظاهريا، يبدو الحمام مختلفا جدا عن الإنسان، فهو مغطى بريش ويبيض وليس له أسنان، وجسمه مصمم للطيران، و44% من وزنه عضلات، وعظامه على صغر حجمها أقوى نسبيا من عظام الإنسان لتتحمل ضغوط الإقلاع والهبوط، لكنه يشبه البشر في أجهزة داخلية كالقلب والتنفس وفي طريقة الشرب، فهو كما يقول الشافعي "يعب الماء عبا وليس قطرة قطرة كالدجاج".

مخ الحمامة بحجم حبة الفول، لكن مهاراتها أكبر من ذلك بكثير، فهي تتعرف على نفسها في المرآة، وتميز الحروف الأبجدية والأشخاص في الصور، وتطير وفقا لخرائط في عقلها، وهذا حير العلماء وجعلهم يبحثون عن مراكز أخرى خارج مخها تكون مصدر هذه المهارات، ورجحوا أن يكون في البروزين اللحميين الموجودين أعلى فتحتي أنفها، خصوصا أنهما يحتويان علي نسبة عالية من الحديد الممغنط الذي من المحتمل أنه يصطف مع المغناطيسية الأرضية ويساعد الحمامة على فهم جغرافية الأرض.

وللحمام عاطفة جياشة ومداعبات رومانسية جعلت البعض يطلق عليه "الطائر العاشق"، وله طريقة خاصة في إرضاع صغاره من الفم بلبن خاص كامل الدسم غني بمضادات الأكسدة يفرز من بطانة الحوصلة.

والحمام أيضا من المخلوقات القليلة التي تتنبأ بالعواصف والزلازل والبراكين قبل حدوثها نظرا لقوة حاستي السمع والبصر عنده، وخبرته في السفر والعودة حيرت العلماء كما ذكرنا، فهو يستخدم الشمس والنجوم والمغناطيسية الأرضية أثناء طيرانه على ارتفاع 2 كم وبسرعة 90 كم/ساعة حيث تصعب رؤية الأرض.

وهو يفهم معنى الزمان والمكان، وهي خاصية لا يتمتع بها إلا القليل من المخلوقات، ففي إحدى التجارب نقلت حمامة لمسافة 2000 كيلومتر في قفص مغطى ودوار لتمويه اتجاه النقل، ورغم ذلك عندما أطلق سراحها عادت إلى موطنها الأصلي، ولم يعرف لحد الآن كيف تفعل ذلك.

قبل اختراع وسائل الاتصال الحديثة كان للحمام دور رئيسي في نقل الرسائل بين الناس والقادة والجيوش، ففي الحرب العالمية الأولى نقل الحمام رسالة استغاثة من 194 جندي محاصر إلى قيادتهم وتم إنقاذهم جميعا بناءً على تلك الرسالة، وفي الحرب العالمية الثانية استخدمت أمريكا 200 ألف حمامة لأغراض المراسلات والتجسس بكفاءة غيرت مجرى الحرب.

وفي عام 1995 منحت جائزة نوبل لعالم ياباني تقديرا لدراساته على الحمام، واستحق الجائزة لإثباته أن الحمام يستطيع التفريق بين لوحات بيكاسو ولوحات مونيه وهما يمثلان مدرستين مختلفتين في الرسم هما التكعيبية والانطباعية، ويفرق بين اللوحات المرسومة بالباستيل وبالألوان المائية، والأكثر من ذلك إثباته قدرة الحمام على النقد، حيث كان يعرض عليه رسوم تلاميذ المدارس ليقيمها، وكان يرضى عن الجيد منها ويستبعد السيئ!

ثم حصل الاكتشاف الأهم عام 2015 في جامعة كاليفورنيا، وهو قدرة الحمام على تشخيص الأورام السرطانية من خلال قراءته لصور العينات النسيجية وتمييزه الحميد من الخبيث بنسبة 99% وهي نفس نسبة التشخيص عند الأطباء المختصين، هذا غيض من فيض عن "أمة الحمام، "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا" (الإسراء 85).
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط