الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

حصاد 2019.. عام انهيار السياسة الخارجية الأمريكية.. ترامب ملك التناقضات يربك الجميع بقرارات غير مدروسة.. الأهواء والمصالح الشخصية تنسف اعتبارات الأمن القومي.. وشبح سباق التسلح يُبعث من جديد

الرئيس الأمريكي دونالد
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب

  • مفاوضات تفكيك الترسانة النووية لكوريا الشمالية تنتهي إلى طريق مسدود
  • القوات الأمريكية تتأرجح ذهابا وإيابا من وإلى سوريا
  • مباحثات السلام مع طالبان تنهار دون سبب واضح
  • ترامب يهدم منجزات الإدارات السابقة ليزهو بإنجازاته الخاصة

وسم التقلب والمزاجية السياسة الخارجية الأمريكية على مدار عام 2019 المشارف على نهايته، كيف لا ورئيس القوة العظمى الأكبر في العالم هو أكثر سياسييه تقلبًا ومزاجية وشغفًا بالمفاجآت والتصريحات الصادمة والمواقف المتأرجحة؟

ورصدت صحيفة "الجارديان" البريطانية إخفاقات بارزة لحقت بالسياسة الخارجية الأمريكية عام 2019، وجعلته بجدارة عام انهيار السياسة الخارجية الأمريكية.

كوريا الشمالية

استغلت كوريا الشمالية انشغال ترامب المحموم بمعارك السياسة الداخلية وحملة إعادة انتخابه لتبدل موقفها من التجاوب مع جهود نزع السلاح النووي والقمم الصاخبة بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره الكوري الشمالي كيم جونج أون إلى العودة للاختبارات الصاروخية الاستفزازية والتهديد بتطوير ترسانتها النووية.

وفي جولة سابقة من التصعيد بين الجانبين عام 2017، فاجأ ترامب مساعديه بإصدار أوامر بإجلاء أسر العسكريين الأمريكيين في كوريا الجنوبية، الأمر الذي حلله مراقبون باعتباره مقدمة حرب وشيكة بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية، لكن وزير الدفاع الأمريكي آنذاك جيمس ماتيس لعب دور الثقل العقلاني الموازن وألغى القرار، لكن من المستبعد أن يلعب خليفته مارك إسبر هذا الدور بالنظر إلى تبعيته النسبية لترامب.

ومع تفريغ إدارة ترامب تدريجيًا من المساعدين والمستشارين العقلانيين، بات الأخير يتصرف بقدر أكبر من التحرر والثقة في حساباته الخاصة.

وخلال قمتهما الأخيرة في فبراير بالعاصمة الفيتنامية هانوي، ظن ترامب أنه يقدم لنظيره الكوري الشمالي عرضًا مغريًا، يتمثل في اتفاق يُنفذ على مراحل وينص على التفكيك التدريجي للترسانة النووية الكورية الشمالية مقابل الرفع التدريجي للعقوبات الأمريكية.

وعلقت الصحيفة بأن هذا النوع من الصفقات يمكن أن يسيل لعاب المنافسين في سوق الاستثمارات العقارية التي برع فيها ترامب كرجل أعمال، ولكن ليس زعيم دولة معتد بنفسه ومدجج بترسانة نووية، وكانت النتيجة الطبيعية هي انهيار التفاهمات وعودة العلاقات الأمريكية الكورية الشمالية إلى المربع صفر؛ مربع تبادل الشتائم والتهديدات.

والآن يجلس مسئولي الإدارة الأمريكية في مكاتبهم مترقبين "هدية الكريسماس" التي وعدت بيونج يانج قبل أيام بتقديمها، متوقعين إجراء الأخيرة اختبارًا لصاروخ باليستي جديد بعيد المدى جريًا على عادتها.

سوريا

في سوريا، أحدث قرار ترامب سحب القوات الأمريكية من شمال البلاد صدمة لدى كثيرين، أولهم أفراد هذه القوات أنفسهم على الأرض، وبعد اتصال هاتفي مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 6 أكتوبر الماضي، يبدو أن الأخير نجح في إقناع ترامب بتسليم تركيا مهمة القضاء على بقايا جيوب تنظيم داعش في شمال سوريا، وأمر ترامب بسحب القوات الأمريكية من هناك دون استشارة البنتاجون أو الأكراد حلفاء الولايات المتحدة في سوريا.

وفي غضون يوم واحد، أُمرت القوات الخاصة الأمريكية في شمال سوريا بإخلاء مواقعها، تاركة الحلفاء الأكراد وحدهم في مواجهة هجوم تركي غاشم سرعان ما بادر به الجيش التركي بعد أسبوعين من انسحاب القوات الأمريكية، وعندها أرسل ترامب لاردوغان واحدًا من أغرب الخطابات في تاريخ الدبلوماسية، طالبه فيه بوقف الهجوم على الأكراد وذيّله بعبارة "لا تكن أحمق".

على أن القوات الأمريكية تلقت بعد ذلك بفترة قصيرة أمرًا بالعودة إلى شمال سوريا مكلفة بمهمة جديدة، هي "حماية حقول النفط"، ولأن سرقة موارد دولة أخرى يمكن أن يُعد جريمة حرب، حاول المسئولون الأمريكية تسويغ قرار ترامب بأنه محاولة لحماية حقول النفط السورية من الوقوع في أيدي فلول تنظيم داعش.

وليس من المعروف إلى متى يمكن أن تستمر هذه المعادلة، فأردوغان يعتبر الأكراد السوريين تهديدًا مباشرًا لأمن بلاده، وسيحاول الضغط بكل الطرق على ترامب لرفع غطاء الحماية عنهم.

أفغانستان

في أفغانستان، قام ترامب بحركتي انحراف مفاجئ عن مسار مستقر. وطوال العام المنصرم قاد المبعوث الأمريكي الخاص إلى أفغانستان زلماي خليل زاد محادثات مباشرة مع وفد من حركة طالبان بغية التوصل إلى اتفاق للسلام ووقف إطلاق النار في أفغانستان.

وفي سبتمبر الماضي، وبينما كان الجانبان يوشكان على صياغة تسوية نهائية، أعلن ترامب فجأة أن المباحثات مع طالبان "ماتت"، وألغى ما كان مخططًا أن يكون اجتماعًا مفاجئًا مع طالبان في منتجع كامب ديفيد، بعد وقوع تفجير إرهابي في العاصمة الأفغانية.

وبعد أقل من ثلاثة أشهر، وخلال زيارة لم يُعلن عنها للقوات الأمريكية في أفغانستان، أعلن ترامب عودة المفاوضات مع طالبان، دون أن يعرف أحد على وجه القطع ما الذي أقنعه بتغيير موقفه.

وهذا ليس مستغربًا عندما يأتي من شخصية مثل ترامب، الذي أصدر أمرًا بتوجيه ضربة عسكرية لإيران في يونيو الماضي بعد إسقاطها طائرة أمريكية بدون طيار، ثم ألغى الأمر بعد 10 دقائق بينما كانت الطائرات الأمريكية المكلفة بالمهمة في الجو بالفعل، وحينها برر ترامب ذلك برغبته في تجنب إلحاق خسائر بشرية ضخمة بالإيرانيين، رغم أنه اطلع على تقدير للخسائر المحتملة قبل إصدار الأمر بتوجيه الضربة لإيران.

وفي قرار كهذا وغيره من قرارات الحرب والسلام المصيرية، يندر أن يطيل ترامب التفكير في عواقب الأمور، بل يندر أن يفكر أصلًا، ولذا يصعب تسمية مواقف ترامب الدولية بأنها "سياسة" خارجية، كونها تفتقر إلى الاستمرارية والوضوح والمنطقية المفترضة في جهود تحقيق أهداف الأمن القومي.

المصالح الشخصية

عندما تتعارض سياسة أمريكية ثابتة مع مصالح ترامب وعائلته واستثماراته، لا يتردد الرئيس الأمريكي في تغليب مصالحه الخاصة على المصلحة العامة.

وهذا هو جوهر فضيحة أوكرانيا، التي تلقى ترامب بسببها أكبر ضربة لمركزه السياسي هذا العام، عندما صوت مجلس النواب الأمريكي لصالح اتهام ترامب بإساءة استغلال السلطة وعرقلة تحقيقات الكونجرس حول ممارسته ضغوطًا على نظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لفتح تحقيق بشأن علاقة منافس ترامب الديمقراطي جو بايدن وابنه بشركة غاز أوكرانية.

لقد كانت السياسة الأمريكية الرسمية المعلنة تجاه أوكرانيا هو مساعدتها على مقاومة استيلاء روسيا على جزء من أراضيها، لكن ترامب حول الدعم الأمريكي لأوكرانيا إلى أداة للابتزاز والضغط على أوكرانيا للإضرار بخصومه السياسيين.

وتدخل البيت الأبيض في مناسبات معينة للحيلولة دون فرض عقوبات أمريكية على روسيا وتركيا والصين وإسرائيل، عندما كانت العقوبات المخططة تتعارض مع مصالح واستثمارات عائلة ترامب مع هذه الدول.

وعلى سبيل المثال، فقد كلف ترامب صهره ومستشاره جاريد كوشنر بصياغة صفقة لتسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، في الوقت الذي تدين عائلة كوشنر بمبالغ ضخمة لمؤسسات مالية إسرائيلية.

ووافقت الصين بحماس على إصدار براءات اختراع لإيفانكا ابنة ترامب، في الوقت الذي كانت الإدارة الأمريكية تخوض مباحثات مع بكين للتوصل إلى اتفاق تجاري.

وإلى جانب المصالح المادية المباشرة، لعب الغرور دورًا رئيسيًا في رسم سياسات ترامب الخارجية، وربما يفسر ذلك شغف ترامب بالقضاء على ميراث إدارات سابقة وبناء ميراث خاص به شخصيًا، فعلى سبيل المثال وجهت الإدارة الأمريكية والكونجرس جزءًا كبيرًا من جهدهما لإنهاء اتفاق التجارة الحرة مع كندا والمكسيك (نافتا) وإحلال اتفاق شديد الشبه به (أوسمكا) محله، فقط لكي يتسنى لترامب الزهو بانتصار شخصي.

وفي بعض الحالات هدم ترامب منجزات إدارات سابقة دون إحلال منجزات أخرى محلها، فبعد انسحاب ترامب من الاتفاق النووي الذي وقعته إدارة سلفه باراك أوباما مع إيران، أبعدت حملة الضغط الأقصى لإدارة ترامب على إيران احتمالات خوض مفاوضات جديدة مع الأخيرة، فضلًا عن طرح اتفاق بديل معها. 

الحد من التسلح

في فبراير الماضي، قرر ترامب الانسحاب من معاهدة القوى النووية متوسطة المدى مع روسيا، والتي أبقت على أوروبا نظيفة من الصواريخ الباليستية متوسطة المدى منذ أواخر الثمانينات. وكان هناك إجماع عام في حلف الناتو على أن روسيا خرقت المعاهدة بالفعل، لكن ليس معروفًا ما الذي كسبه ترامب من إلغاء المعاهدة برمتها. لقد اختبرت روسيا صواريخ متوسطة المدى، لكن لم يكون هناك مكان خارج أراضيها لنشر هذه الصواريخ، فلا يوجد بلد في أوروبا أو آسيا يقبل باستضافتها.

ومع انتهاء معاهدة القوى النووية متوسطة المدى، لم تبق سوى اتفاقية واحدة للحد من التسلح النووي، هي معاهدة نيو ستارت، التي أبرمتها إداة أوباما مع روسيا ودخلت حيز التنفيذ في 2011 بأجل 10 سنوات تنتهي في فبراير 2021، وهي تحدد عدد الرؤوس النووية المسموح بنشرها لكل من الولايات المتحدة وروسيا بـ 1550 رأس لكل منهما.

ومن الممكن تمديد أجل معاهدة نيو ستارت لمدة خمس سنوات إضافية باتفاق بين قادة البلدين، لكن إدارة ترامب لم تبد أي استعداد لتجديدها، ربما لأنها فقط جزء من ميراث أوباما.

تصدّر إدارة ترامب في خطابها الرسمي فكرة صياغة معاهدة جديدة للحد من التسلح تضم الصين طرفًا فيها، لكن الترسانة النووية الصينية أصغر بكثير من مثيلتيها الأمريكية والروسية، والرؤوس النووية الصينية غير مهيأة للتركيب على صواريخ بعد، وفوق كل ذلك لا تتوافر الرغبة لدى الصين في الدخول كطرف بمعاهدة من هذا النوع، وهذا يعني أنه مع انتهاء أجل معاهدة نيو ستارت ستتحرر يد القوى العظمى من أي قيود تمنع إحياء سباق التسلح الخامد منذ نهاية الحرب الباردة.