الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

د. أحمد محمد بيبرس يكتب: علامات قبول الطاعة

صدى البلد

سؤال ملح ذي بال يشغل كل طائع يرجو بطاعته نيل ما عند الله، ويخاف عاقبة خسارة عمله، وهو أن يسأل نفسه بعد كلّ طاعة، وكلّ عبادة، يا ترى أعملي مقبول أم لا؟ وهل أنا من المقبولين، أم من المردودين؟ وذلك كتاجر ناصح يعقد بعد كل موسم ما يسمى بـ«الجرد»، ينظر فيه ما حققه عمله خلال الموسم المنصرم؟ مدى ربحه، ومقدار خسارته، وما هي نقاط قوته ليستزيد منها ويعززها، ونقاط ضعفه ليكون منها في عام قادم بينهما جُنّة.

فالتوفيق للعمل الصالح نعمة كبرى، لكنها لا تتم إلا بنعمة أخرى أعظم منها، وهي نعمة القبول، حتى أن هذا السؤال أبكى السلف الصالح عند الموت، فقيل له ما يبكيك؟ فقال: آية في كتاب الله تعالى قوله عز و جل :إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ[سورة المائدة: 27]. فالعمل الصالح المقبول هو المرتجى وإن كان قليلًا، والعمل الكثير لا ينفع صاحبة إن لم يكن مقبولًا، فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ، مما جعل سيدنا علي يقول: «لا تهتمّوا لقِلّة العمل، واهتمّوا للقَبول، ألم تسمعوا الله عز وجل يقول : إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ[سورة المائدة:27].

وللقبول علامات وشرائط، فإن وجدها الطائع في نفسه فليحمد الله عليها، وليعمل على الثبات والاستمرار عليها، وإن لم يجدها فليكن أول اهتمامه -من الآن- العمل بها بجد وإخلاص لله تعالى، وسنعرض في هذه السطور لأهمها:

العلامة الأولى: التوفيق للعمل الصالح بعد الطاعة حتى يقبض على ذلك:

فالصائم بعد رمضان كالكارّ يعني كالذي يفر من القتال في سبيل الله ثم يعود إليه، فكثير من الناس يفرح بانقضاء شهر رمضان لاستثقال الصيام، وطوله عليه، ومشقته، ومن كان كذلك فلا يكاد يعود إلى الصيام سريعًا، فالعائد إلى الصيام بعد فطره يدل عوده على رغبته في الصيام، وأنه لم يمله ولم يستثقله، ولا يكره به. فكانت أم سلمة تأمر أهلها من كان عليه قضاء من شهر رمضان فليبدأ أن يقضيه الغد من يوم الفطر، وأن يبدأ بقضائه في شوال فإنه أسرع لبراءة ذمته، وهو أولى من التطوع بصيام ستة من شوال.

فالحسنات جالبات لأخواتها، وكأن الحسنة تنادي بصوت جهور أختي أختي، وهذا من رحمة الله وتعالى وفضله؛ أنه يكرم عبده إذا فعل حسنة، وأخلص فيها لله أنه يفتح له بابًا إلى حسنة أخرى؛ ليزيده منه قربًا، مصداقًا لقوله: فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * [سورة الليل: 5-6-7]، كمن حسنت بضاعته، وراج سوقه، ورغب الناس فيما لديه من البضاعة، فحاله أن من كثرة المشترين حوله أن يعييه عدّ مكسبه من بيعاته. حتى ييسر الله المنة الكبرى وهو أن يديم عليه العمل الصالح ثم يقبضه عليه، فعن عُمَرَ الْجُمَعِيَّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا اسْتَعْمَلَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ» فَسَأَلَهُ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: مَا اسْتَعْمَلَهُ؟ قَالَ: «يَهْدِيهِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ قَبْلَ مَوْتِهِ، ثُمَّ يَقْبِضُهُ عَلَى ذَلِكَ»[مسند أحمد: 28/453]، تدبر قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ[فصلت: 30، 31].

العلامة الثانية: الوجل من عدم قبول الطاعات:

لما كان الوجل من عدم قبول الطاعة مخوفا، جعل قلوب أهل الإيمان وجلة، حتى استشكل ذلك على السيدة عائشة الصديقة ـ رضي الله عنها حين سألت: رسول الله -- عن هذه قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون: 60]، فقرأتها الصديقة: يَأْتُونَ مَا أَتَوْا، أى: يفعلون ما فعلوا"، فحصرت السيدة عائشة مفهوم الآية بتوبة أهل المعصية الذين يشربون الخمر، ويسرقون؟! ثم يتوبون ويخافون ألا يقبل منهم؟

 فصحح النبي ذلك المفهوم، أنه إن كان أهل المعصية يخافون من قبول طاعتهم، فأهل الطاعة أخوف على أعمالهم من غيرهم فقال : « لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ وَلَكِنَّهُمْ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ»[ سنن الترمذي، حديث رقم 3175].

فالطائعون على قدر حرصهم على الطاعات لكنهم لا يركنون إلى جهدهم وأعمالهم، ولا يتمنن بها على ربه، بل يزدري أعماله، ويمتلئ قلبه مهابة ووجلًا، يخشى أن ترد أعماله عليه، ويلح على الله تعالى يسأله أن يتقبل منه، فعدو من صفوف: رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ * [النور: 37 - 39].

العلامة الثالثة: عدم الانتكاس والرجوع للمعصية بعد الطاعة:

الانتكاس والرجوع إلى الذنب بعد الطاعة علامة مقت وخسران للطاعات, ولذلك قطع ربنا عز وجل أن الانتكاس تبديل لنعمة الله، فقال: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ [إبراهيم: 28، 29].

قال يحي بن معاذ: "من استغفر بلسانه وقلبه على المعصية معقود, وعزمه أن يرجع إلى المعصية بعد الشهر ويعود, فصومه عليه مردود, وباب القبول في وجهه مسدود" [لطائف المعارف لابن رجب ص: 244].

نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا من الرابحين الفائزين، المغفور لهم يارب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد المتوج بتاج: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.