الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

دعاء الجهيني تكتب: تضارب المهام.. ولاءان وقلب واحد

صدى البلد

من تعدد السلطات إلى تعدد الولاءات، والأخير أصعب في سياق هذه الظاهرة نتيجة تضارب مهام الفرد. فربما يكون ارتداء قبعتين على رأس واحد أسهل بكثير من حالة الصراع المشتعلة في قلب واحد نتيجة ازدواجية الولاءات، وتضارب المشاعر، وحالة الانفصام الاضطرارية التي تستدعي أن يقوم بها الشخص في بعض المواقف. لا أعتقد أنه يوجد موقف أصعب من موقف" الطبيب العسكري" الذي تضطره مهامه الرسمية المتعارضة إلى تحديد مسار ميله العاطفي إلى أحد اتجاهين "الإنسانية" أم "الوطنية". فمن خلال الاطلاع على أمثلة تضارب المهام، وجدت مقال لـDaniel Messelken، وهو أحد الباحثين في مجال الأخلاقيات في جامعة زيورخ، يحلل فيه بشكل قانوني الأطر الدولية لتنظيم أدوار "الطبيب العسكري" الذي أطلق عليه في مقالته اسم" الطبيب المقاتل". 


ومن قراءتي للمقال وجدت أنها وضعية تضارب في المهام بالدرجة الأولى، تأخذ منحى التعدد في الولاءات أكثر من تعدد السلطات، فالأخير يكون بها الشخص قادرا على انجاز كلا المهمتين وتقلد السلطتين دون وجود مشكلات تعيقه، لكن الشخص الذي يقع في تضارب المهام القائم على تعدد الولاءات يكون في حالة يرثى لها. فالطبيب العسكري هو جزء من الجيش، ولا يعتبر مقاتلا، ويكون في حالة تضارب أقرب إلى مستوى الصراع النفسي بين مبدأي "الانسانية" و "الوطنية"، بين ولائه للجيش والوطن وبين ولائه للإنسانية وقيمة الرحمة. هذا الشخص يكون خاضعا لقَسمين "قسم أبقراط" الشهير لضمان امتثاله لأخلاقيات مهنة الطب، وقسم ولائه للجيش لضمان امتثاله للوطن والقيادة. 


والجندي المقاتل مهمته التدمير والتخريب وقت الحرب للهجوم على الخصم وإضعافه، والطبيب مهمته العناية والرعاية والاسعاف وإنقاذ المريض وتقويته، والأول دوافعه تتجه نحو انهاء حياة العدو والقضاء عليه، والثاني مهمته إحياء حياة المريض حتى وان كان عدوًا أسيرًا، والقيام على خدمته. لنا أن نتخيل اجتماع القيمتين في قلب واحد والدافعين في أداء واحد والشخصيتين في شخص واحد!! الأمر في غاية الصعوبة. فقد تغلب وطنية الطبيب انسانيته عندما يتعامل مع عدوه كأسير، لكنه يضطر لتغليب مبدأ الانسانية على مبدأ الوطنية. وفي مواقف أخرى قد يغلب مبدأ الانسانية مبدأ الوطنية في التعامل مع الأسرى مثل امتناع البعض عن المشاركة في تعذيب المحتجزين. ومن هنا يكون تعدد السلطات أسهل بكثير من تعدد الولاءات، والظاهرة واحدة، لكن التعدد غير واحد. ويؤكد Messelken أن هذا التضارب يظهر في اوقات النزاع المسلح ، وأن هناك قواعد واجراءات إدارية تنظيم عمل المقاتلين في أوقات الحروب، وأخلاقيات للمهنة تعمل على تنظيم اعمال الطبيب بشكل عام. ويحدث تضارب المهام وتعارض الولاءات نتيجة خضوع الطبيب العسكري لأوامر عسكرية ، فيجد نفسه في موقف ازدواجية يتسم بالضبابية، يجعل ولاءه يتذبذب بين اتجاهين متعارضين. 


ولهذا السبب، اهتمت اتفاقيات جنيف الدولية وبروتوكولاتها بحل وتنظيم أزمة تضارب المهام للطبيب العسكري في أوقات النزاع المسلح، حيث نصت إحدى مواد بروتوكولات الاتفاقية على عدم جواز توقيع العقاب على أي شخص لقيامه بنشاط ذي صفة طبية يتفق مع شرف المهنة بغض النظر عن الطرف المستفيد. وهناك مواد أخرى أقرت بوجوبية الامتثال لأخلاقيات مهنة الطب أن أي رفض متعمد لتقديم رعاية طبية لجريح أو مريض يعد جريمة حرب. وفي بعض الحروب، تقوم بعض الجيوش بتكليف الأطباء من ذوي الخبرات المحدودة بالتمركز في مواقف هجومية يضطرهم إلى التعامل في هذه الحالة كمقاتلين وليس كأطباء، أو أن يتم تزويد بعض الوحدات الطبية في اوقات النزاعات المسلحة بالأدوات العسكرية للهجوم على الخصم في حالة مهاجمتهم، رغم أن الاتفاقيات ضمنت في بنودها عدم التعرض للوحدات الطبية، إلا أنه يتم مهاجمتها في بعض الأحيان، مما يضطر الطبيب للتعامل كمقاتل في هذه الحالة. 


وفي ظل حالة التعارض والازدواجية في موقف الطبيب العسكري، أصبحت قضية تضارب المهام محل نقاش وجدال من خبراء القانون الدولي والإنساني، حتى تم التوصل في النهاية إلى تغليب مبدأ" الإنسانية" في أوقات الضرورات العسكرية، وضمان الواجب الطبي المحايد والمستقل ضمن مبدأ الإنسانية، على أن يكون هذا المبدأ بمثابة ثقل موازن لمنطق الضرورة العسكرية.