الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

د. رأفت محمود يكتب: دور مصر في أزمة غزة

صدى البلد

لطالما مثلت غزة معضلة تؤرق متخذ القرار المصري، فهي لا تعد فقط أرض فلسطينية محتلة، وجوار جغرافي وتمازج سكاني مع المصريين في سيناء، ومعضلة أمنية تهدد الأمن القومي المصري من أكثر من جانب، ولكنها اعتبرت أحد الأدوات التي وظفت ومازالت لصالح أطراف تعادى الدولة المصرية. 

هذا التوظيف بدأ بعد اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية والتي بزغ فيها دور الإسلام السياسي، وإعادة هندسة الجغرافيا السياسية للمنطقة ورسم إطار ما يعرف دور للإسلام السياسي في المنطقة، والذي دشن بثلاث أحداث كبرى تمثلت في اغتيال السادات، الثورة الإيرانية، والعمل على تضخيم الذات التركية، والتمهيد لعودة نفوذها الاستعماري ومجدها في المنطقة، والبدء في تكسير عظام الدول القومية الكبرى والتي لم يكن لها عنوان سوى مصر. 

هذه ليست أول حرب في غزة ولا يتوقع أن تكون الأخيرة، ولكن في هذه الحرب تبدلت أدوار وتغير المشهد كُليًّا.

وعلى الرغم من المآسي وحجم الدمار الذي أصاب قطاع غزة، والألم الذي يعتصر القلوب نتيجة القوة الغاشمة التي تستخدمها إسرائيل لمواجهة المقاومة الفلسطينية، إلا إن حسابات تتعلق بأهداف ونتائج التحرك من الفصائل الفلسطينية، وطبيعة الارتباط بتسخين الجبهة الفلسطينية بملفات إقليمية والارتباط بين مشروع غزة المستقلة وحلم الدولة الفلسطينية القائمة على حدود 67، ولعل مراجعة لأدبيات حماس بخصوص غزة المستقلة وأخيرًا ما صرح به القيادي الحمساوي موسى أبو مرزوق على قناة الجزيرة القطرية منذ يومين، بالعمل على استقلال غزة وانفصالها عن الكيان الصهيوني على غرار تبعيتها للإدارة المصرية في الماضي، وبما يلقي الضوء على مفهوم الدولة الفلسطينية لدى حماس.
ويلقى بتبعات ليس فقط الإقليم المتخم بالسكان ومشاكله الأمنية ولكن حل القضية وفق المخططات التي يروج لها على عاتق مصر، ولعل ما حدث في عام 2008 حينما اقتحم سكان القطاع بعد توجيه من حماس، وتنظيم من كوادرها، والتي نسفت السور الحدودي بين غزة ومصر، واقتحموا الحدود المصرية وصولا إلى العريش وهي المنطقة التي جاءت فيما أطلق عليه صفقة القرن الأمريكية.
فتوظيف القضية للضغط على مصر كان حاضرًا وبقوة، فمراجعة للتغطية التي كانت تتم لحروب 2008 و2012 و2014 من قنوات مثل الجزيرة أو التصريحات التي تخرج من عواصم دول كتركيا وطهران، أو جماعة الإخوان المسلمين في الداخل المصري توضح الهدف واستغلال الحدث لأغراض لم تكن لدعم القضية الفلسطينية.

فمع بداية المعركة تبدأ الآلة الإعلامية في توجيه سهامها للدولة المصرية مع خطاب إعلامي زاعق بهدف مناصرة القضية الفلسطينية من خلال شاشات مع إبراز أوراق سياسات لكتاب ومراكز محددة، بهدف مهاجمة السياسات المصرية والتركيز على القضايا الخلافية والترويج لشخصيات وسياسات دول محددة، وخلق ما يطلق عليه تشويه الدور المصري بعمل "ترندات" على وسائل التواصل الاجتماعي.

وفي كل الحروب السابقة كانت دعوات مثل فتح المعابر، والذي كان عنوانه معبر رفح المصري وهو المعبر الوحيد من عدة معابر أغلبها يقع في الجانب الإسرائيلي مع حدود القطاع، وفي نكران حقيقي لمسئولية الاحتلال الإسرائيلي وفق القوانين الدولية عن الأوضاع في الأراضي المحتلة.

ثم ظهور ما يطلق عليه الحلول التي يطرحها خبراء يعملون في دوائر بحثية تتبع جهات في الأغلب أمنية عن تبادل أراضي، وإعادة توطين سكان غزة في سيناء، وأطروحات عن مستقبل نظم الحكم في المنطقة والذي ينتقد معظمه نظم الحكم القائمة ويبشر بالإسلام السياسي وفق الرؤية التركية، والتي كانت تهدف إلى وضع اليد التركية على المنطقة مرة أخرى.

عانت مصر كثيرًا من الوضع في غزة سواء في اعتداء إسرائيل عليها أو خلال أحداث 2011 وما بعدها، وللتذكرة فقد وضعت تسويات عديدة للقضية الفلسطينية سواء اتفاقية أوسلو وما تبعها من مبادرات، وكان أحد معرقلي هذه التسويات بالإضافة إلى الجانب الإسرائيلي تيارات فلسطينية على رأسها حماس.

خلال الأحداث الجارية حَالِيًّا، في الحقيقة قامت مصر بدورها تجاه القطاع كعهدها خلال أزماته السابقة، سواء بتقديم الدعم الطبي، وفتح المستشفيات المصرية، أو بالوقود، والضغط السياسي والأمني من أجل مساعدة القطاع، وزاد على ذلك عدد من المتغيرات تتعلق بالأداء المصري الذي أرسل عدة رسائل لجهات محددة يعينها متخذ القرار المصري، وكذلك التغيرات التي طالت الواقع الإقليمي والدولي.

فالتوظيف السياسي للقضية من جانب قوى إقليمية اختلف في الأزمة الحالية، فقد تم تعرية المشروع التركي، وأنكشف الأداء المسرحي الذي دأبت على القيام به أمام الشعوب العربية، في الدفاع عن القضية الفلسطينية، خاصة بعد تدخلها وأطماعها في الأراضي السورية والليبية والعراقية، وانكشاف الاطماع الاستعمارية وراء مشروعها للإسلام السياسي والقائم على عودة الدولة العثمانية مرة أخرى.

حَالِيًّا خفتت دوافع تركيا لتوظيف قضية القطاع لصالح مشروعها السياسي في المنطقة الذي تم تعريته، وأن لن تتوانى عن إطلاق تصريحات ومبادرات للوجود في المحفل.

أيضًا لم تعد الدولة المصرية هي الهدف في ظل محاولاتها الدؤوبة للوصول إلى تسوية مع مصر تراعي مصالحها بعد أن مسكت مصر بجميع الخيوط في يديها، سواء في شرق المتوسط أو الاقتراب من تسوية الوضع الليبي، وفشل المنابر التي فتحتها للهاربين من الإخوان المسلمين للضغط على الدولة المصرية.

انكشف المشروع التركي وانقلبت الآية وأصبحت تركيا هي من تحتاج مصر الآن بعد أن استطاعت أن تستعيد قوتها ومبادرتها في الملفات التي تتقاطع مع متطلبات الأمن القومي لها.

أيضًا توظيف قطر وقناة الجزيرة والعديد من مراكز الأبحاث التي تمول دراسات وأبحاث هدفت إلى الترويج لسياسات دول محددة، والانتقاص من الدور المصري، ومشروع الدولة القومية الذى تتبناه، حاليًا تحققت تسوية ما زالت محل اختبار برعاية خليجية بين مصر وقطر، وقد وضح تغير مازال يتحسس طريقه في تناول القناة للدور المصري في الأزمة الحالية على النقيض مما كان يحث سابقًا، حيث كانت الجزيرة تشعل النيران تحت الأقدام المصرية في حملة كبرى ممنهجة لتزيف الوعي لصالح المشروع السياسي الذي تبنته القناة وممولوها وواضعي سياسات تحريرها.

أيضًا التحرك المصري كان استباقي وسريع ومبادر، ووظف قدراته بمهارة، أرسلت مصر وفد أمني مصري لإسرائيل ووجدت مصر في قلب الحدث قبل أن تفيق عواصم دول من مفاجئة اشتعال الموقف وتحدد خطواتها القادمة، وقبل أن تبدأ النغمة المعتادة عن المعبر والمساعدات المصرية، فمصر حاضرة بخطط للتعامل مع الأزمة كأنه تم الإعداد لسيناريوهات مصرية لمواجهة اشتعال الأزمة في غزة.

وخطبة الجمعة من الأزهر الشريف ودلالة الرمز وما قيل في الخطبة، فأصبحت مصر هنا هي من تتولى التصعيد وقيادة الدفة، في حدث لم يسبقه أحد من القوى التي دأبت على الزعيق واستغلال القضية.

حتى وجدنا مؤتمر زاعق من الدوحة بقيادة اسماعيل هنية وأخر من تركيا بقيادة خالد مشعل في تذكرة لما أطلق عليه جهاد الفنادق، لم يستطيعوا أن يتجاهلوا الدور المصري والإشادة به على الخلاف والنقيض مما كان يحدث في السابق.

مبادرة لم تقم بها مصر من قبل بإعادة اعمار غزة بمبلغ 500 مليون دولار وقبل أن تبدأ حملة المزايدات المعتادة حول التبرع لغزة. 

الأن بعد ما أطلق عليه ربيع العلاقات العربية الإسرائيلية خاصة من دول الخليج العربي ووضع العلم الإسرائيلي على إحدى رموز إحدى دولها، فلم تعد مقارنة مصر صاحبة الدور والمكانة، الدولة التي يمكن تجريسها، وإنه دائمًا لا بد من الجلوس مع المصريين للتشاور بشأن القضية بكل مشتملاتها.

ومن ناحية أخرى فقد تحركت مصر في القضية من منطلق متطلبات أمنها القومي، وهذا حقها، وأرسلت رسائل لعدد من الجهات على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية والإدارة الجديدة، وإسرائيل التي وضح إنها تتلاعب بقضية الأمن المائي المصري.

كذلك فأن تأثير ما حدث ما بعد 2011 والوعي المتزايد لدى المصريين بالخطر الذي تعرض له وطنهم، وانكشاف أدوار قوى إقليمية ودولية في التآمر على مصر، وخاصة ما حدث في سيناء، مما جعل اليد المصرية لم تعد مغلولة، فحسابات كثيرة تغيرت، ونتائج ما قامت الدولة المصرية خلال الفترة الماضية تحصده الآن.