الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

إن كان علينا أن نجوع فليكن لهذا السبب!

 

إن أية أمة من الأمم تمر بالعديد من الأطوار، فمرة هي في عداد الدول المتقدمة، وذلك إن أحسن أهلها استغلال مواردها، وأخذوا بالأسباب من أجل هذا التقدم، وثانية هي متخلفة، وذلك حينما يكسل أهل هذه الأمة ولا يستغلون ما حباهم الله من موارد وما أفاء عليهم من نعم، وأخرى هي بَيْن بَيْن، فلا هي في عداد الدول المتقدمة، ولا هي من التخلف بمكان، والسبب في كل هذه الأطوار هو شعب هذه الأمة وحكامها، فمن المستحيل أن يعمل شعب ما على نهوض أمة غير أمته، ومن المستحيل أن تنهض أمة إلا إذا نفضت عن عينيها تراب الكسل وغادرت تثاؤب الدعة والخمول، وهذا لن يتحقق إلا إذا كان هناك دوافع حقيقية يأتي على رأسها إدراك تلك الأمة بوضعها الحقيقي بين الدول، ثم رفضها لهذه المكانة المتدنية، فتعمل على القفز إلى الأمام لتلحق بدول العالم المتقدم.
ذلك الذي ليس له إلا سبيل واحد لا ثانٍ له، وهو العلم والعمل، فمهما كانت الرغبة أكيدة ومهما كان الطموح شديدا ومهما كانت الآمال عالية، فإن هذه الرغبة وذلك الطموح وتلك الآمال ستظل مجرد حلم لن يكتب له التحقق ما لم يكن الطريق إلى تحقيقه هو العلم.
وما من شك لدينا أن الأمة المصرية، في طورها الراهن، تعاني من تخلف جعلها في مكانة لا يمكن أن يرضى عنها أي مصري فضلا عن محب لهذا الوطن عاشق له، هذا التخلف الذي لا يليق بأمة علمت العالم، ومازالت تذكر في كل كتب العلم، في الأبواب الأولى المُؤصٍلة لأيٍّ من العلوم، ومازالت تُذْكر باعتبارها الشعلة الأولى التي أضاءت للبشرية نور العقل، فلا يستطيع كائن من كان أن يذكر فلاسفة اليونان الأوائل، بل والحضارة اليونانية التي هي جذور ما توصل له العقل الحديث "الغربي" اليوم، دون أن يشير إلى تعلم هؤلاء الفلاسفة وبناة الحضارة اليونانية على يد المصريين الأوائل، الذين سمحوا لهم بالوقوف على أكتافهم لينظروا أبعد مما نظروا هم، وهكذا بنيت الحضارات، حيث بنيت جميعها على أسس متينة من الحضارة المصرية القديمة.
نعم مصر اليوم في طور التخلف الذي لا نرضى لها، نحن أبناءها، أن تقيم به، وأن تستكين مستمرة فيه، هذا الذي دفع الرئيس عبد الفتاح السيسي للسير بخطًى سريعة لتترك مصر هذا المكان الذي لا يليق بها ولا بشعبها العريق، ولقد عمل الرئيس على عديد الأصعدة، مستعينا بالشعب الذي تحمّل عن صبر جميل فاتورة الإصلاح لإيمانه بأهمية ضرورة انتقال مصر إلى مكانة تليق بها، هذا الذي لكي يتحقق فلابد من اللجوء للعلم والاحتكام له، ذلك الذي يعني ضرورة ملحة بالاهتمام بالبحث العلمي، الذي هو القاطرة الوحيدة القادرة على تحقيق ما يصبو له المصريون بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي.
ولعله من المناسب أن نعترف بوضوح شديد بالعجز الهائل في الميزانية المخصصة للبحث العلمي.
إن العالم قد وضع معيارا لقياس اهتمام الأمم والدول المختلفة بالبحث العلمي، وهو كم من مقدار الدخل القومي للدولة مخصصا للبحث العلمي؟! هذا الذي يعكس مكانة العلم والعلماء في هذه الدولة أو تلك.
وفي نظرة سريعة في القائمة التي يعرضها  البنك الدولي فإننا نتعرف على تلك النسب التي خصصتها دول العالم المختلفة في العام ٢٠١٨ للبحث العلمي، هذه النظرة التي أتت بدولة العدو الصهيوني في مقدمة كل دول العالم بنسبة 4.95% في المركز الأول دون منافس، هذا الذي يعكس حجم الاهتمام الهائل منها بالبحث العلمي ذلك الذي جعلها في مصاف دول العالم المتقدمة علميا، أما كوريا الجنوبية فلقد احتلت المركز الثاني في الإنفاق على البحث العلمي وذلك بنسبة 4.81% من دخلها القومي ذلك الذي يزيل اندهاشنا لتلك القفزة الهائلة التي حققتها تلك الدولة الأسيوية، هذا الذي أعاد إلى ذاكرتي هذا الحوار الذي دار بيني وبين عالمنا الكبير الراحل الدكتور أحمد زويل والذي كان من بين الأسئلة التي وجهتها له: أن العلم تراكمي وأنه من أجل اللحاق بدول العالم المتقدم فهل نحن في حاجة إلى العديد من العقود؟! فكانت إجابة العالم الكبير بالنفي؛ حيث أكد أن الأمر في حاجة إلى قرار سيادي بعدها سننطلق وخلال عشر سنوات أو يزيد قليلا فإننا سنلتحق بركب العالم المتقدم علميا ضاربا مثالا بسنغافورا ودول شرق آسيا.
وفي هذه القائمة، المشار إليها سابقا، التي نشرها البنك الدولي، لم نجد دولة متقدمة علميا إلا وخصصت أكثر من 3% من دخلها القومي للبحث العلمي، وعلى النقيض من ذلك تماما، فلم نجد دولة من دول العالم المتخلف علميا إلا وكانت النسبة أقل بقليل من 0.2%  والتي للأسف كان من بينها دول عربية، لنلاحظ الفارق الشاسع في الإنفاق بين الدولة المتقدمة علميا والدول المتخلفة علميا.
إن الدولة العربية الوحيدة التي جاءت نسبة إنفاقها على البحث العلمي فوق ١% كانت دولة الإمارات العربية المتحدة والتي خصصت من ميزانيتها ما نسبته 1.3% أما المملكة العربية السعودية فلقد خصصت أقل من 1% من دخلها القومي حيث خصصت 0.82% أما مصرنا الغالية، والتي، على ما نؤمن، إن صلح حالها وتقدمت فإنها ستصبح القاطرة التي تجر وراءها العالم العربي كله فإنها خصصت للبحث العلمي حسب ما هو منشور على موقع البنك الدولي في قائمة عام ٢٠١٨ ما مقداره 0.72 أي أننا لم نصل إلى نسبة 1%.
نعم لقد عدت للسنوات التالية لعام ٢٠١٨ ووجدت زيادات مضطردة فيما تم تخصيصه للبحث العلمي في مصر، ولكنه يظل غير كاف بالمرة، فإن كانت مصر تسعى بصدق لمغادرة حالة التخلف التي لا تليق بها، فإنه ليس هناك سبيل لذلك غير العلم.
إن مصر تتمتع بكم هائل من العقول وعدد كبير من العلماء يرفعون اسمها، رغم هذا الإنفاق الضئيل على البحث العلمي، في دول العالم المختلفة، فنجد علماء مصر يترأسون المؤتمرات العالمية كما هو الشأن مع الأستاذ الدكتور جمال مصطفى السعيد أستاذ جراحة الأورام بجامعة القاهرة والذي هو ضيف دائم على أهم المؤتمرات في دول العالم المتقدم ليتم الاستفادة من علمه، والذي نفخر به، نحن المقيمين بالقارة الأوروبية من المصريين، وغيره كثيرون.
وما من شك فإن الإنفاق على البحث العلمي ليس إنفاقا مهدرا أو بلا عائد بل على العكس تماما فإن الإنفاق على العلم هو الإنفاق الوحيد المضمون عائده، فكما هو معلوم فإن ما يتم إنتاجه من تكنولوجيا هو الأكثر ربحا في العالم، وما يتم إنتاجه في أي مجال من المجالات العلمية يعود على المنتجين بأرباح هائلة، ولعل أوضح نموذج والذي لا يحتاج إلى دليل أو برهان هو اكتشاف لقاح فيروس كورونا والذي عمل عليه الباحثون والعلماء الجادون الذين يمتلكون قاعدة علمية رصينة وبيئة علمية سليمة، هذا الذي هو غير متحقق  إلا الدول المتقدمة علميا، هذا الاكتشاف قد عاد على هؤلاء المنتجين بمكاسب مادية هائلة.
إن ربط البحث العلمي بسوق العمل لهو أحد أهم الوسائل لإثراء البحث العلمي من ناحية وتحقيق مكاسب مادية من ناحية أخرى، هذا الذي هو مُتَّبع في كل دول العالم المتقدم فالعديد من الشركات، إضافة إلى ما تخصصه الدول، تنفق على البحث العلمي، وليس ذلك من أجل سواد عيونه، بل من أجل الربح والعائد المادي من الإنتاج العلمي.
ولكي ندرك حجم المأساة التي يتعرض لها البحث العلمي والباحثين والعلماء في مصر تعالوا نتعرف على ما تقدمه الجامعات المصرية للباحثين من خلال رسالة وصلتنا من أحد الأصدقاء الأكاديميين نعرضها هنا بالنص:

يتم تعيين الاوائل على الكليات بالجامعات المصرية في وظيفة معيد ويتقاضى مرتب ٢٧٥٠ جنيه، هذا المتفوق مطلوب منه ان يعيش حياة كريمة ويلبس لبس محترم حتي يكون قدوة للطلاب بالإضافة إلى أنه لابد أن يدخر بعض المال لكي يكوّن حياته وهذا لا يحدث في الوضع الطبيعي لأنه يفيق على أنه يجب عليه أن يعمل في رسالة الماجستير الأمر الذي يتطلب منه البحث والتدقيق وشراء المراجع بالنسبة للكليات النظرية. أما إن كان ذو حظ عسير وأنه بكلية عملية فهذا وضع آخر فعليه عمل رحلات حقلية وتجميع عينات وعمل تحاليل أو شراء بعض الكيماويات بمبالغ تقارب الثلاثين ألف جنيه على أقل تقدير.

أما بعد مرحلة المعيد التي تتراوح ما بين سنتين إلى خمس أو ست سنوات على حسب الكلية فيتم تعيينه في وظيفة مدرس مساعد وهنا يصل مرتبه إلى ٣٧٥٠ جنيه وطبعا هو في حاجة لتكوين أسرة، فعليه أن يتزوج ليكوّن هذه الأسرة ويعمل أيضا في رسالة الدكتوراه التي تكلفه مبالغ طائلة أكثر بكثير من الماجستير. وبعد حصوله على درجة الدكتوراه يتم تعيينه في درجة مدرس بالجامعة وهنا تبدأ المعاناة حيث يتقاضى مرتب ٥٠٠٠ جنيه ويكون عنده أسرة مكونة من زوجة وطفل واحد أو طفلين على الأكثر، وهنا يدخل في معمعة مصروفات مدارس، والتي لا تقارن بمصروفات البحث العلمي فإذا أراد مدرس الجامعة أن يترقى فيجب عليه نشر – على الأقل – خمسة أبحاث في مجلات عالمية مرموقة، تكلفة البحث  الواحد على أقل تقدير ما لا يقل عن ٢٠ ألف جنيه غير مصاريف النشر.

والمفاجأة الصادمة والمؤلمة في آن، كما يذكر صديقي الأكاديمي صاحب الرسالة، أن الباحث يحصل كل سنة على سلفة أبحاث ٢٢٥ جنيه، ما يعادل خمسة عشر دولار "في السنة نعم في السنة"، وبعد أن يتم عمل الأبحاث ويمر عليه خمس سنوات ويتم ترقيته من خلال لجان الترقيات إلى أستاذ مساعد فأن الزيادة في المرتب التي يتحصل عليها لا تزيد عن ٨٠٠ جنيه.

يعود الأستاذ المساعد بعدها ذلك مرة أخرى للعمل في البحث العلمي من أجل الحصول على درجة الأستاذ حيث يكون مطلوبا منه  من خمسة إلى ثمانية أبحاث منشورة في مجلات عالمية لكي يتم ترقيته إلى درجة أستاذ بعد ٥ سنوات أخرى.

وعندما يفيق استاذ الجامعة يري نفسه وصل الخمسين عاما ويتقاضى مرتب لا يزيد عن ٨٠٠٠ جنيها وبالمقارنة بخريج حديث  لم يتجاوز ٢٢ عاما يجد الأخير يتقاضى ضعف مرتبه. فيفكر هل كان تعييني بالجامعة حلم ام كابوس.

هذه هي الصورة كما تضمنتها رسالة الصديق الأكاديمي  نضعها بين يدي السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي يسابق الزمن من أجل إلحاق مصر بدول العالم المتحضر، وذلك بالعمل على كافة الأصعدة، ونحن نأمل أن يصدر سيادته الأوامر ليصبح البحث العلمي في مقدمة هذه المجالات حيث أنه الوحيد القادر على قيادة قاطرة الخروج من هذه الحالة المتخلفة التي لا تليق بمصر، ونحن على يقين أن السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي يسير في كافة المجالات بشكل متواز وأنه لن يترك البحث العلمي بما هو عليه من تدهور لا يليق بمصر ولا بما تمتلك من عقول وعلماء وباحثين قادرين على الإسهام في الحضارة العلمية الإنسانية بسهم كبير حال هُيّأت لهم البيئة المناسبة والمناخ الملائم.
قبل الختام: همسة عتاب في أذن أهلنا في الخليج العربي الذين وهبهم الله سبحانه وتعالى من الثروات ما هو طائل، والذين يستثمرون في كل شيء، كان آخره الاستثمار في المجال الرياضي "باريس سان جيرمان / مانشستر سيتي/ نيوكاسل" وهو استثمار بالمليارات من الدولارات، نقول: يستثمر أهلنا في الخليج في كل شيء إلا البحث العلمي الذي هو فقط القادر على أن ينقذ هذه المنطقة من براثن التخلف،  ونتساءل: ماذا لو خصصت كل دولة من دول الخليج الثرية خمسة ملايير من الدولارات توضع في صندوق يخصص للبحث العلمي في الوطن العربي جميعه ونترك لعلمائنا إطلاق العنان في الدرس والبحث.
أما بالنسبة لمصر فإنه على الرغم مما تعانيه من أزمات اقتصادية خانقة، تحملها الشعب المصري عن صبر وإيمان في مستقبل أفضل، فإنه إن كان لهذا الشعب العظيم أن يجوع من أجل مصر لسبب من الأسباب فإن هذا السبب ليس إلا البحث العلمي.
ملاحظة مؤلمة: في قائمة البنك الدولي التي أشرنا إليها، لم تخصص كل من دولة سوريا وليبيا الشقيقتين  للبحث العلمي أي نسبة ولو يسيرة، ذلك الذي يعكس آثار المؤامرة التي حيكت على المنطقة في العقد الأخير.

المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط