الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

ألمانيا الموحدة تودع نصف عمرها.. ميركل وميراث الزعامة التي تخرج من كل عاصفة أقوى

المستشارة الألمانية
المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل

أولئك الذين عاشوا في ألمانيا الشرقية تحت الحكم الشيوعي الموالي للاتحاد السوفيتي بعد الحرب العالمية الثانية، يعرفون جيدًا ما يعنيه أن ترفض أمرًا من جهاز أمن الدولة "شتازي"، فإن سألت أحدهم عما قد يحدث حينها سيجيبك باقتضاب غالبًا "تعيش بلا مستقبل.. هذا إن ظللت حيًا".

لا.. شرف الكلمة

الفيزيائية الشابة أنجيلا دوروثيا كاشنر كانت تعرف هي أيضًا ما عساه يحدث لها إن هي رفضت الشرط الأهم لكل من يتقدم إلى وظيفة في ألمانيا الشرقية: أن يتجسس على زملائه، ومع ذلك تحلت الشابة بشجاعة نادرة ونطقت أمام الضابط الكلمة التي لا تُسمع عادة في أروقة جهاز شتازي الرهيب: لا.

قُضي الأمر إذن، رُفض طلب الفيزيائية الشابة للعمل بالتدريس في قسم الفيزياء بجامعة إلميناو في ولاية تورينجين أواخر السبعينيات لأنها لم تقبل أن تتحول إلى جاسوسة على زملائها، الذين كانوا في الغالب يتجسسون على بعضهم طالما بقوا في مناصبهم.

خسرت الباحثة الشابة الوظيفة التي كانت تأملها، لكنها لاحقًا، بعد عشرات السنين، صارت صانعة السياسة الأولى في بلدها، الأولى بمعنى تبوؤها المنصب الأعلى، والأولى كونها المرأة الأولى صعودًا إلى المنصب، وهذه سيرة شديدة الإيجاز للمرأة التي، من موقع السلطة، واكبت نصف عمر ألمانيا الموحدة: أنجيلا ميركل.

نصف عمر الوطن

توحدت الألمانيتان، الشرقية والغربية، في جمهورية فيدرالية بعد انهيار جدار برلين في 7 نوفمبر 1989، منذ 32 عامًا، قضت نصفهم أنجيلا ميركل مستشارة رئيسة للحكومة لستة عشر عامًا متتالية منذ 2005، أي أن ميركل، فعليًا، هي نصف عمر ألمانيا الموحدة، فقط لتودع المنصب صباح اليوم، تاركة خلفها ميراثًا يندر مثيله في بلد عملاق مثل ألمانيا.

تقول قناة "سي إن إن" الأمريكية إنه يصعب تذكر أي وقت لم تكن ميركل فيه داعمة للتحالف الأوروبي الأمريكي عبر الأطلسي، هي التي تطور وعيها السياسي تحت ظلال "الستار الحديدي" السوفيتي المعادي للغرب، والذي ضم إلى إمبراطوريته ألمانيا الشرقية بعد الحرب العالمية الثانية وقبل ولادة ميركل بعشر سنوات.

عاصرت ميركل في نهاية حكمها رابع رئيس أمريكي ورابع رئيس فرنسي وخامس رئيس وزراء بريطاني توالوا على مناصبهم بينما ثبتت هي في موقعها منذ صعودها الأول إليه عام 2005، وطوال ستة عشر عامًا قضتها في السلطة مرت ميركل بمواقف عصيبة وشدائد ثقال، وبعد عاصفة الأزمة المالية العالمية عام 2008 دافعت بقوة عن المشروع الأوروبي الذي كان يترنح منذرًا بتفكك التكتل الأقوى في العالم.

البصمة الأخلاقية.. وإنقاذ وحدة أوروبا

انحازت ميركل إلى مواقف أخلاقية في مواقف كانت تتطلب قدرًا كبيرًا من الصلابة والبصيرة والقدرة على الدفاع عن الموقف؛ فعلت ذلك في قضايا مثل فتح الحدود الأوروبية لموجات المهاجرين واللاجئين من الشرق الأوسط، وضم روسيا لشبه جزيرة القرم من أوكرانيا.

وكان على ميركل أن تدافع بكل قوتها مرة أخرى عن المشروع الأوروبي بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والذي هدد بتصدع التكتل الأقوى في العالم تحت ضربات اليمين القومي المتطرف الصاعد في أوروبا والولايات المتحدة في عهد دونالد ترامب، بل كان عليها الدفاع عن تماسك التحالف الغربي نفسه في وجه انعزالية ترامب ونفوره من العمل الجماعي.

ميركل.. القيادة التي لا تلين

لخصت أنجيلا ميركل شعارها في 22 يوليو الماضي بالقول "الحياة بدون أزمات أسهل، لكن حين تحلّ، يجب مواجهتها". وعددت المستشارة عندها خمس أزمات كبرى واجهتها، من الأزمة المالية عام 2008 إلى تفشي وباء كوفيد-19، مروراً بإنقاذ اليورو وملف اللاجئين، وخصوصا السوريين عام 2015 والتغير المناخي.

شهد الدور الذي لعبته ألمانيا على الساحة الدولية تطوراً على مدى 16 عاماً. ففي ظل صعود النزعات الشعبوية، وصفت صحيفة نيويورك تايمز ميركل بأنها "زعيمة العالم الحر" الجديدة.

وبعدما كانت ألمانيا "الرجل المريض" في الاتحاد الأوروبي مطلع الألفية، استعادت موقعها كأكبر قوة اقتصادية في القارة، مستندة إلى فائض هائل في الميزان التجاري وإدارة مالية صارمة. وتراجعت نسبة البطالة خلال 16 عاماً من 11,2% إلى 5,7%، في سوق لا تزال هشة على وقع تفشي وباء كورونا.

قد تختلف الآراء في السيدة التي بلغت السابعة والستين في 17 يوليو، لكن ما يجمع عليه الألمان أنهم كانوا في الأعوام الستة عشر يعرفون أن لديهم قائداً قد يخطئ وقد يصيب، إنما في كل الأحوال لا يخشى مواجهة الأزمات ونسج التوازنات.