في اللقاء الذي جمع الرئيس عبد الفتاح السيسي برموز المنظومة الإعلامية المصرية، كان الحديث يدور حول معنى أن يكون الإعلام ضميراً للأمة، لا مجرد صدى عابراً لأحداثها. لقد أدرك الرئيس، بحكمة القادة الذين يقرأون الزمن بعين البصيرة، أن الإعلام أصبح ساحة يتصارع فيها الحق والباطل، وورشة تبنى فيها العقول قبل الأبنية، وميداناً تحدد فيه معالم الهوية قبل الحدود.
لم يتحدث الرئيس عن الحرية ككلمة تتردد في الفراغ، بل رسمها ككائن حي، له روح تغذيها المسئولية، وجسد يحميه الوطن. إنها الحرية التي لا تتنفس إلا في رئة الأخلاق، ولا تعيش إلا في ظل الثوابت. وكأنه يقول لنا: إن الكلمة الحرة هي التي تحمل في طياتها همس الأمة، لا صرخة الفوضى.
ماسبيرو.. ذاكرة تتجدد
أما "ماسبيرو"، ذلك الصرح الذي ظل لعقود يمثل صوت مصر النابض، فقد أصبح اليوم أمام مفترق طرق. فالعالم لم يعد يحتمل خطاباً جامداً يتكلم بلغة الأمس، بينما الجمهور يسبح في فضاءات لا تعرف حدوداً. التحديث ليس خياراً، بل هو قدر لا مفر منه. فكيف لصوت أن يصل إلى القلوب إذا كان لسانه أعجميّاً، وقلبه لا ينبض بلسان العصر؟
ولعل أبرز ما لمسناه في كلمات الرئيس ذلك الإيمان العميق بالشباب، كأنه يرى في عيونهم شعلة المستقبل. لكن يا ترى، كم من موهبة دفنها الروتين؟ وكم من فكرة أطفأها الخوف؟ إن العطاء لا يطلب من الشموع أن تضيء وهي محبوسة في قوالب الجليد.
البدل النقدي.. رسالة بلا كلمات
وما موافقة الرئيس على صرف البدل النقدي للصحفيين وحل مشكلات العاملين بماسبيرو إلا رسالة صامتة تقول إن الإعلامي جندي في معركة الوعي، وقلمه سلاح في ساحة الحق. ولكن، هل يدرك الإعلاميون أن المسئولية هي الثمن الطبيعي لكل امتياز؟
إن مصر تقف اليوم على حافة زمن جديد، وإعلامها إما أن يكون جسراً يعبر به الوطن إلى بر الأمان، أو أن يظل حبيس ذاكرة بالية. لقد قال الرئيس كلمته: نريد إعلاماً حراً مسئولاً، منفتحاً واعياً، قوياً راقياً. فهل نستطيع أن نصنع من الكلمات حقائق؟
كم من أزمة جعلنا منها سراً، فتحولت إلى فضيحة؟ وكم من مشكلة عاملناها بالكتمان، فانفجرت كالبركان؟ إن الشعب ليس أعمى، فهو يرى ما نخفي، ويسمع ما لا نقول. فلماذا نصنع من الحقائق ألغازاً، ومن الأزمات طابوراً خامساً؟
الحرب الخفية
في زمن أصبحت فيه الكذبة سلاحاً، والشائعة جيشاً، لم يعد الإعلام مجرد ناقل للأخبار، بل أصبح حارساً للحقيقة. لقد رأيت بأم عيني كيف تتحول كلمة مسمومة إلى سيل جارف، وكيف يختزل وعي الأمة في مقاطع لا تتجاوز ثوان. فهل ندرك أننا في حرب وجودية، أم نظل نلعب في ساحة الماضي؟
إن الجيل الجديد لا يتحدث بلغتنا، ولا يفهم خطابنا. فبينما نحن نناقش طول التقارير وحجم العناوين، هم يغرفون المعرفة من ينابيع لا نعرفها. سألني شاب ببراءة: لماذا تتحدثون إلينا بلغة أبي؟. فلم أجد جواباً. التغيير يحتاج إلى شجاعة، والشجاعة تحتاج إلى إيمان. فهل نؤمن بأن الإعلام ضمير الأمة؟ وهل نملك الجرأة لنقول لأنفسنا: لقد آن الأوان؟
إن رسالة الرئيس واضحة كالشمس: الإعلام ليس ترفاً، بل هو رسالة أو صمت إلى الأبد. فإما أن نكون عند مستوى المسئولية، أو نعترف أننا خذلنا التاريخ.
لكن المفارقة الأكثر إيلاماً في مشهدنا الإعلامي اليوم هي تلك الهوة السحيقة بين إعلام يحاول أن يكون صورة للجمهورية الجديدة ، وواقع يشهد تحولات جذرية في طرق استهلاك المعلومة. فبينما تنفق الملايين على استديوهات فاخرة وتقنيات متطورة، يظل السؤال الجوهري عالقاً: هل ننتج محتوى يلامس روح العصر؟
الحقيقة إن ما يعانيه الإعلام القومي ليس نقصاً في الإمكانيات، بل أزمة هوية لغوية. فالكلمات الرنانة والعبارات المنمقة التي تملأ الشاشات تشبه زخارف قصر جميل، لكن أبوابه مغلقة. المواطن البسيط يبحث عن لغة تفهم نبض حياته اليومية: الحل ليس في تبسيط" اللغة، إنما في تحويلها إلى جسر من التعاطف. حين تحدث الرئيس عن الحرية المسئولة، كان يلمح إلى أن الإعلام الناجح هو الذي يتنفس مع الشعب، لا فوقه.
في المقابل، يواجه الإعلام الخاص معضلة أخلاقية، السبق الصحفي أم الدقة؟ الكلمة الصادقة أم المشاهدات العالية؟. لقد تحولت بعض القنوات إلى بازارات إلكترونية تقايض المعلومة بالدعاية، والتحليل بالدراما. والأخطر هو ذلك الانقسام الحاد بين وسائل الإعلام التي تتبنى خطابات متضاربة، فتحول الرأي العام إلى ساحات معركة بدلاً من أن تكون منصات حوار.
الإعلام الرقمي.. ثورة لم نستثمرها بعد
بينما يهدر وقت ثمين في جدال عقيم على الشاشات، فإن معركة الرأي العام الحقيقية تدور على منصات التواصل الاجتماعي. والسؤال المحوري هو لماذا تنجح صفحات غير محترفة في تشكيل الوعي بينما تقف المؤسسات الإعلامية الكبرى في موقع الرد المفاجئ ؟
الجميع يعرف أن الطريق طويل وشاق، لكن شيئاً ما كان يقول إن اللحظة حاسمة. ربما تكون هذه هي الفرصة الأخيرة لإعادة تشكيل الإعلام المصري قبل أن يفوتنا القطار.
السؤال ليس فيما إذا كنا نستحق إعلاماً أفضل، بل فيما إذا كنا نملك الشجاعة لصنعه. الشجاعة لمواجهة أنفسنا، الشجاعة للتخلي عن الموروث البائد، الشجاعة للاعتراف بأن العالم قد تغير وأن علينا أن نغير معه.
رسالة السيد الرئيس لنا .. رسالة واضحة محددة تقول ببساطة إن الإعلام ليس ترفاً، بل هو ضمير الأمة. وإما أن نكون عند مستوى المسئولية، أو نعترف بأننا خذلنا التاريخ.
عبد السلام فاروق يكتب: الإعلام المصري.. وشجاعة التغيير
