قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

د. محمد عسكر يكتب: خبير اصطناعي

د. محمد عسكر
د. محمد عسكر

في عالم باتت فيه الحقيقة تتداخل مع الخيال، ولم تعد المعرفة أو التخصص شرطاً لمنح لقب خبير، وفي فضاء رقمي تتلاحم فيه سرعة انتشار المعلومات مع غياب رقابة الجودة، ظهر نوع جديد من الخبراء؛ لا يمتلكون شهادات أو دراسات، بل يعتمدون على مهارة الظهور بثقة، وإلقاء كلمات كبيرة ومعقدة توحي بالعمق أكثر مما تعكسه. هؤلاء باتوا من أبرز رموز عصرنا، إذ يكفي أن تمتلك حساباً على وسائل التواصل الاجتماعي، أو كرسياً ثابتاً أمام كاميرا، لتمنح نفسك سلطة معرفية في شتى المجالات.
يطلّ علينا هؤلاء من شاشات التلفاز والمنصات الرقمية بمهارة استثنائية، يقدمون لنا تحليلاتهم العميقة في كل شيء: من السياسة والاقتصاد إلى الطب والفن، وكأنهم محطات تلفزيونية مصغرة في أجساد بشرية لا حدود لتخصصاتهم، ولا سقف لآرائهم، فكل حدث يستدعي خبيراً، وهم حاضرون دائماً، بالنبرة الواثقة والثقة المطلقة. في هذا المشهد، لا تبدو الخبرة نتاج معرفة، بقدر ما تبدو أداءً مُتقناً أمام الكاميرا.
هذه الظاهرة ليست مضحكة فحسب، بل إنها تعكس بوضوح ثقافة الضجيج الرقمي، حيث لم يعد وزن الكلمة يُقاس بمعناها أو صدقها، بل بحدة نبرة قائلها وعدد متابعيه. وهكذا، أصبح التخصص الحقيقي عبئاً في زمن صارت فيه سرعة الكلام وزخم الحضور أهم من مصداقية المحتوى وعمقه.
لا تعجب إن وجدت خبيراً يتحدث عن الاقتصاد في الصباح، ثم ينتقل ليكون خبيراً طبياً عند الظهيرة، وقبل أن تغرب الشمس يتحول إلى محلل فني ناقد! فهؤلاء الخبراء يمارسون التخصص متعدد المجالات بطريقة لم يسبق لها مثيل ؛  فلا كتابات منشورة، ولا دراسات موثقة تثبت أيّاً من ذلك، لكنهم يمتلكون موهبة نادرة في توظيف جمل رنّانة وعبارات مركبة من قبيل: "الاستراتيجيات المستقبلية"، "التحديات الهيكلية"، و"الرؤية الشمولية"، وكأن المصطلح المعقّد بات بديلاً عن المعرفة ذاتها.
في هذه الحقبة، يبدو أن الحضور أضحى أهم من المحتوى، وسحر الظهور يفوق الكفاءة. لا يهم إذا كنت تعرف فعلاً ما تتحدث عنه، المهم أن تُطلق رأياً بكل ثقة وثبات، وكأنك في مهمة إنقاذ العالم. وبالطبع، لا تنسَ لهجة الحسم والثقة، النظرة الثاقبة، ونبرة الصوت الحادة، تلك التي تضفي على كلامك هامشاً من المصداقية الزائفة.
المضحك أن هؤلاء الخبراء يستخدمون كل الأدوات المتاحة ليجعلوا كلامهم يبدو مقنعاً، حتى وإن كان خالياً من أي معنى حقيقي. تراهم يوزعون مصطلحات أجنبية وأرقاماً من هنا وهناك، دون أن يعرفوا حقيقة ما تعنيه، فيغرق المشاهد في بحر من الكلمات المفتاحية التي تبدو وكأنها كلمات سر سحرية تفتح أبواب المعرفة.
وفي الوقت نفسه، فإن هذه الظاهرة لم تقتصر على التلفزيون فقط، بل امتدت إلى الفضاء الرقمي حيث تتكاثر الحسابات الوهمية والصفحات المزيفة التي تُنتج خبراء جدد كل يوم، يُطلون علينا بآراء متناقضة ومتغيرة، حسب ما تمليه عليهم خوارزميات الشهرة الرقمية.
لكن، هل تساءلت يوماً عن السبب؟ ربما لأننا كبشر، في عالمنا المعاصر، نبحث عن إجابات سريعة وسهلة، ونفضل من يُقدمها لنا بثقة مفرطة حتى وإن كانت مجرد هراء مزخرف. فالخبير الاصطناعي هو بالضبط ما نحتاجه: صوت عالي وسط ضجيج المعلومات، سهل الاستهلاك، وخالٍ من التعقيدات المزعجة التي قد تجعلك تفكر.
وعندما نبحث عن الحقيقة وسط هذا الزحام، نجد أن الخبير الحقيقي صار أشبه بالبحث عن إبرة في كومة قش، أو ربما في متاهة من الخبراء الاصطناعيين الذين يرددون آراءً متشابهة بلا توقّف، في صخب لا ينقطع.
في النهاية، ربما يكون الحل هو أن نعود إلى الأساسيات: أن نستمع، نتعلم، ونسأل، وأن نحرص على التمييز بين الخبير الاصطناعي والخبير الحقيقي، الذي يبني آراءه على المعرفة والدليل لا على الرغبة في الظهور والاحتفاء بالنفس.
أما في انتظار ذلك، فلنستمتع بعروض الخبراء الاصطناعيين الذين، رغم كل شيء، يقدمون لنا حكاية فريدة عن عصرنا، عصر الكلام الكثير بلا معنى، والصوت العالي بلا مضمون.