ليس من اليسير أن تُقدِم مؤسسةٌ رسمية على الاقتراب من القرآن لا من بوابة التشريع ولا من منبر الوعظ، بل من مدخلٍ أكثر رهافة: مدخل التلاوة بوصفها فعلَ جمالٍ منضبط، وفضاءَ تربيةٍ صامتة، ولسانَ حالٍ يُعيد وصل الإنسان بالمعنى قبل أن يخاطبه بالحُكم. من هنا تُقرأ مبادرة “دولة التلاوة” لا باعتبارها برنامجًا عابرًا، بل باعتبارها إشارة دالّة على تحوّلٍ في فهم الوظيفة الدينية داخل المجال العام، وانتقالٍ محسوب من خطاب المباشرة إلى خطاب التأثير الوجداني العميق، وهو تحوّلٌ ينسجم مع الرؤية الفكرية التي عبّر عنها معالي أسامة الأزهري في أكثر من مقام، حين أكّد أن تجديد الخطاب الديني لا يتحقق بكثرة الشعارات، بل بإعادة بناء العلاقة الهادئة بين النص والإنسان.
إنّ التسمية ذاتها ليست تفصيلًا لغويًا، بل اختيارٌ مفهوميّ واعٍ. فـ“الدولة” هنا لا تُحيل إلى سلطةٍ قهرية، ولا إلى جهازٍ إداري، بل إلى بنيةٍ جامعة، وإلى أفقٍ من التنظيم والضبط والاستمرارية. أما “التلاوة”، فهي ليست مجرد أداء صوتي، بل ممارسة مركّبة تجمع بين صحة الحرف، واستقامة الميزان، وحضور القلب. وحين يجتمع اللفظان في تركيبٍ واحد، فإنهما يُنتجان تصورًا جديدًا: دولةٌ لا تُدار بالقانون وحده، بل تُسند ذاكرتها الرمزية إلى القرآن بوصفه مصدرًا للسكينة، ومولّدًا للذوق، ومهذّبًا للوجدان.
في هذا الأفق، تتجاوز المبادرة منطق المسابقة إلى منطق البناء. فهي لا تبحث فقط عن قارئٍ متقن، بل عن نموذجٍ يُعيد الاعتبار إلى مدرسة التلاوة المصرية بما تحمله من تاريخٍ في الجمع بين الجمال والانضباط، وبين المقام والمعنى. إنّ إعادة إحياء هذه المدرسة ليست حنينًا إلى الماضي، بل فعلُ مقاومةٍ ثقافيةٍ ناعمة في وجه أنماط من التديّن السريع، أو التلاوة المُفرغة من روحها، أو الأداء الذي يُراكم النغم ويُهمل المقصد. وهنا يتجلّى البعد الاستراتيجي للمبادرة: تحويل التلاوة من ممارسة فردية معزولة إلى مشروع ذوقٍ عامّ يُعيد تنظيم الحسّ السمعي للمجتمع.
وما يُحسب لهذه المبادرة، في مبناها العام، أنها أدركت أن القرآن في العصر الحديث لا يمكن أن يبقى حبيس الدوائر المغلقة، ولا أن يُترك فريسةً لمن يُسيئون توظيفه أو تبسيطه. فاختارت أن تُعيد تقديمه عبر وسيطٍ جماهيريّ واسع، لا ليُختزل في المشاهدة، بل ليعود فاعلًا في تشكيل الحسّ العام. هنا تبرز جرأة الفكرة: تحويل الشاشة من فضاء استهلاكٍ سريع إلى فضاء إنصات، ومن زمن تشويش إلى لحظة إصغاء. وهو رهانٌ صعب، لكنه نبيل في مقصده، لأنه يراهن على الإنسان بوصفه كائنًا قادرًا على التذوّق، لا مجرد متلقٍّ عابر.
أما من جهة المعنى، فإن “دولة التلاوة” تُقدّم فهمًا غير مباشر للتجديد الديني. فهي لا تُخاصم التراث، ولا تُعيد إنتاجه حرفيًا، بل تستخرج منه ما يصلح أن يكون لغة مشتركة بين الأجيال: الصوت القرآني حين يُؤدَّى على أصوله، يصبح خطابًا كونيًا يتجاوز الانقسام، ويُوحّد السامعين حول الجمال قبل الجدل. وبهذا المعنى، فإن التلاوة تتحول إلى أداة تهدئة حضارية، تُخفف من حدّة الاستقطاب، وتُعيد للدين صورته بوصفه مصدر طمأنينة لا مادة صراع.
ولعل البعد الأعمق في المبادرة هو بعدها التربوي غير المعلن. فالتلاوة، حين تُقدَّم في سياقٍ مؤسسيّ راقٍ، تُعيد تعليم الناس كيف يستمعون، وكيف يُميّزون بين الصوت الجميل والصوت المتكلف، وبين الأداء الموزون والأداء المستعرض. إنها تُعيد تشكيل الذائقة، والذائقة ــ كما هو معلوم ــ أساسُ الأخلاق قبل أن تكون مسألة فنية. من هنا، يمكن القول إن “دولة التلاوة” تشتغل في العمق على بناء الإنسان، لا عبر الخطاب المباشر، بل عبر التربية الجمالية الصامتة التي تُهذّب الحسّ وتفتح باب التأمل.
ولا يغيب عن هذه القراءة أن المبادرة تنطوي على بعدٍ حضاريّ أوسع. فهي تُعيد تثبيت حضور مصر بوصفها حاضنةً لواحد من أهم الفنون الدينية في العالم الإسلامي، وتُحوّل هذا الحضور إلى طاقة إيجابية قابلة للتراكم. إنّ التلاوة، حين تُدار بعقلٍ مؤسسيّ ورؤية فكرية منضبطة، تصبح جزءًا من القوة الرمزية للدولة، وقناةً للتواصل الثقافي تتجاوز اللغة والسياسة، لأنها تخاطب الإنسان في أعمق ما فيه: السمع، والوجدان، والإيمان.
على أن نجاح هذا المسار يظل مشروطًا بالحفاظ على التوازن الدقيق بين قداسة النص ومتطلبات العرض، بين روح العبادة وآليات الإعلام. فكلما بقيت التلاوة وفيةً لمقاصدها، وكلما ظلّ القارئ شاهدًا على المعنى لا نجمًا عليه، أمكن للمبادرة أن تتحول من تجربة إلى تقليد، ومن موسم إلى مدرسة، ومن برنامج إلى مشروع حضاري طويل النفس.
في المحصلة، تُقدَّم “دولة التلاوة” بوصفها قراظةً إيجابية في حقّ فكرةٍ جريئة: أن القرآن لا يزال قادرًا، إذا أُحسن تقديمه، على أن يكون عمادًا للسكينة العامة، ومعمارًا للذوق المشترك، وجسرًا بين الدولة والمجتمع، لا بل بين الإنسان ونفسه. إنها ليست دولة تُبنى بالحجر، بل دولة تُشاد بالصوت، وتُدار بالمعنى، وتُحفظ بالجمال.