الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

التراجع للأمام !

محمود خليل
محمود خليل

تسيطر فكرة نهاية العالم على عقولنا هذه الأيام، ويتساءل أكثرنا عن ماذا سيحدث إن وقع المحظور واستخدم أحد الأطراف سلاحاً نووياً ضد الأخر، وبعيداً عن الحسابات العسكرية ومن سيبدأ الحرب ومن سينتصر فهذه الحسابات رغم أهميتها لن تكون الشيء الأهم فى هكذا معركة! إذ أن الأهم فى هذه المعركة هو حجم التدمير الذي سيلحق بالحضارة البشرية وكيف ستتعامل البشرية مع هذا التدمير.

والمُلاحظ فى الثلاثين سنة الأخيرة أن العالَم فى تطوره التكنولوجى صار ينظر للأمام وفقط وأن فكرة الخطة البديلة لم تعد فى الحُسبان، وأن العالم يتقدم تَقدُم من لا يخشى الرجوع للوراء أبداً، وقد زاد  الإعتماد على التكنولوجيا الرقمية سواء فى تخزين المعلومات أو فى أنظمة التحكم أصبح إعتماداً كُلياً أو لنقل أنه إقترب جداً من أن يكون كُلياً.

فى مجال تخزين المعلومات إنتقل العالم للتخزين على شبكة الإنترنت (Cloud) وتراجعت أهمية وحدات التخزين ( Hard Disk) التى لم تَعُد تعنى لنا الكثيراليوم،  وقد حدث ذلك فى وقت قصير لم يكَد الواحد منا يشعر به إذ كنا نتفاخر على بعضنا بالأمس القريب بمن يمتلك وحدة التخزين الأكبر فى المساحة التخزينية والأصغر فى الحجم! وقد تطورت سعة التخزين من الكيلو للميجا للجيجا للتيرا فى ظرف سنين قليلة قبل أن ينتقل التخزين كله للإنترنت، أما التخزين الورقى وأقسام الأرشيف فى الشركات بموظفيها  فقد أصبحت الأن جزءاً من التاريخ! 

أما عن التحكم اللاسلكى فقد أصبحت البشرية تتحكم فى أغلب دفاعاتها العسكرية ووسائل مواصلاتها وسدودها ووحدات إنتاج وتوزيع الطاقة ( مفاعلات أو خطوط إنتاج بترول أو محطات كهرباء) وغيرها من المصالح المُهمة بضغطة زر، فأنت تحارب وتُنتج وتفتح وتُغلق من غُرفة تحكم على بعد ألاف الأميال من موقع الحَدَث.

فماذا لو فقدنا كل ذلك نتيجة حرب مفاجئة مُدمرة!  أغلب الظن أن حضارتنا القائمة على التكنولوجيا ستنهار تباعاً كقطع الدومينو مع إنهيار الإنترنت والتكنولوجيا الرقمية المُشغله لها، وأغلب الظن أننا لن نستطيع بناء تلك الحضارة ثانية بسهولة ولسنين طويلة وربما للأبد إذ أن البنية الأساسية  (مصانع و معامل ) التى من المفترض أن تعيد بناء ما تدمر هى نفسها مُعتمدة على ذات التكنولوجيا المُدمرة! 

ماذا لو وعُدنا للوراء فجأة، ولن أفترض أننا عُدنا ألاف السنين بل لنَقل أننا عُدنا مائتى سنة فقط، كيف سيكون الوضع؟! 

هل سنجد الطبيب المُلهَم مُتعدد المهارات الذى يصف الدواء ويَرُد الكسور ويطبب الجروح ويُجرى العمليات الجراحية بأدوات بدائية بسيطة؟ هل يستطيع الجيل الحالي من الأطباء أن يعمل بإعتماد كامل على عقله ويديه دون أدوات مُتقدمة ودون الرجوع لمعلومات مُخزنة موجودة دائماً تحت أمره لتُساعده وتدعم قراره؟

هل سنَجِد المهندس الماهر الذى يُجرى حسابات بناء المبانى والسدود إعتماداً على عقله ويديه وفقط! هل سنجِدُ من يُصمم لنا أدوات ميكانيكية بسيطة كتلك التى نراها فى المتاحف اليوم لنستعين بها على قضاء أمورنا اليومية البسيطة ؟


وكيف ستسير حركة البيع والشراء فى أسواق بسيطة بدائية دون أنظمة حسابات مُعقدة ؟
وكيف سنحمى بيوتنا وأهلنا ومصالحنا بلا أجهزة تحكم وكاميرات تسجل وترصد؟
كيف سيتسلى الصغار دون ألعاب إلكترونية، هل سنستطيع أن نُعلمهم ألعاباً بسيطة مُسلية مُفيدة يتميز فيها الطفل الماهر الذكى الإجتماعى عن الطفل العادى بدلاً من ألعابنا التى تنتصر للطفل الكسول البليد المُنطوى؟


وهل سنستعيد ذاكرة التواصل الحقيقى ونستطيع أن نتحدث مع بعضنا البعض بالساعات بعد أن أصبحنا نجيد الحديث بالكلمات المُختصرة والتعبيرات والوجوه الإفتراضية أكثر ما نجيد الحديث مع بعضنا البعض؟

لقد ذهبنا بعيداً فى الإعتماد على التكنولوجيا و أصبحت مهاراتنا وقدراتنا تدور فى فلكها، وأصبحنا مُشغلين لها وفقط وتغيرت معايير التفوق والإبداع حتى أصبح الماهر فى مجاله يتوارى خجلاً إن كان لا يعرف كثيراً فى التكنولوجيا أياً كان تخصصه،  وتربع مشغلوا الوسائل التكنولوجية على قمة الهرم الوظيفى مهما كانت ضحالة تفكيرهم وقلة مواهبهم! 

أعتقد أننا سننجو إن نجونا وقتها فقط بما تبقى من إيماننا وأخلاقنا وقيمنا ومهاراتنا الفطرية، والحق أنه إن كان ذلك التراجع الحضارى سيجبرنا على التفتيش فى أنُفسنا والإعتماد على مواهبنا وإكتشاف القيمة الحقيقية للإنسان فينا فأهلاً به!  فهو فى هذه الحالة ليس تراجعاً وإن كان تراجعاً فهو تراجع للأمام.