كانت تكتب له، كل ليلة.. كأن شيئًا في قلبها لا يهدأ إلا حين تُسكته بالحروف. تبدأ بكلمة "اشتقتُ إليك"... ثم تتجمد أصابعها عند الحرف الأخير وتُحدّق في الجملة، كأنها لا تُصدق أنها كتبتها، ثم تمحوها ببطء، كمن يبتلع اعترافًا لا يملك شجاعة تحمّله. لم تكن تكتب لتقول ما تُخفي، بل لتتنفس فقط، وكأن الحروف كانت المتنفّس الوحيد الذي لا يراكِبه الخوف.
أحيانًا، كانت ترسل رسالة مليئة بالدفء. جملة واحدة: "ياريتني قابلتك من زمن بعيد، وكنت أتمنى حبك وطريقتك."
ثم تعود بعد يومين، تمحوها من المحادثة، كأنها تريد أن تمحي آثار قلبها، كأنها تنكُر، لا ما كتبته، بل ما شعرت به لحظة الكتابة.
أما هو، فكان يرى آثار الغياب في رسائل مبتورة. يرى ردوده على كلام لم يعد موجودًا.
يقرأ: "تم حذف هذه الرسالة".
يقرأ سطورًا كتبها بحُب، ثم يكتشف أن لا شيء هناك يستحق هذا الانفعال. كأنّه يحاور ظلًّا، أو طيفًا يتراجع كلما اقترب.
كان الصمت معها لا يشبه الصمت. كان مليئًا بالأصوات: خوف، رغبة، هروب، اقتراب... ثم فزع.
كانت تريده، لكنها كانت تخاف مما قد يحدث إن أراده بالمثل.
ربما لم تكن قاسية. ربما كانت فقط تائهة. ضائعة بين ما تريده، وما لا تعرف كيف تعطيه. بين أن تُحب وتُفلت، أن تقترب ثم تهرب كأن في القرب تهديدًا لا يُحتمل.
لم تكن تعرف كيف تُكمل، لكنها كانت تعرف تمامًا كيف تُبقيه على الحافة. نصف حب، نصف انسحاب، رسالة تُكتَب، ولا تُرسَل. كلمة تُقال، ثم تُمحى. ويدٌ تُمدّ... ثم ترتجف وتعود.
أما هو، فظلّ يحاول أن يصدّق. أن يمنحها الوقت، والمجال، والاحتمال. وكان كلما ضاق به الصبر، تذكّر ما قاله له والده يومًا: "بعض القلوب يا ولدي، لا تُطارد... تُترك، ليعرف أصحابها إن كانوا يريدون البقاء."
ومع كل رسالة تُمحى، كان يفقد جزءًا من ثقته، ومن نفسه، ومن الحكاية.
حتى أتى اليوم الذي لم يعد ينتظر. لا رسالة، ولا تراجع، ولا اعتذار. أغلق الأبواب بهدوء، كما تُغلق صفحة كانت تؤلم كلما قُرئت.
وفي تلك الليلة، كتبت له من جديد. هذه المرة، كتبت كل شيء. بصوت القلب العاري، والخوف الذي لم يعد له مكان يختبئ فيه. لكن حين دخلت تبحث عنه... لم تجده.
قرأت الرسالة مرة، مرتين، وأرسلتها. ثم مسحتها كعادتها. لكن هذه المرة، لم يكن الحذف نسيانًا... بل خسارة. شعرت لأول مرة، أنها لا تمحو الكلمات فقط... بل تخسر شيئًا لا يمكن استرجاعه.