الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

هل تُعجِل صراعات القارة العجوز بهلاكها؟| قصة الخلاف الفرنسي - الألماني ومحاولة رأب الصدع لمواجهة واشنطن

دولار
دولار

قبل أن تسقط الخلافة العثمانية، وهيمنتها على العالم الإسلامي؛ كانت الدول الأوربية تصفها، بأنها «الإمبراطورية العجوز»، وكان سقوط تلك الأمبرطورية سريعا بالفعل؛ بعد أن أصابها العجز في أركانها.

وربما تمر أوروبا- والتي تسمى بالمصادفة أيضا بـ"القارة العجوز"-، بهذا التصدع الداخلي، وأبرزه؛ خلافات القوى الكبرى بها، وعلى رأسها الخلاف الألماني الفرنسي الدائر الآن، والذي أضعف أوروبا في خلافها «المالي والاقتصادي والتجاري» مع الولايات المتحدة الأمريكية.

وفي محاولة لرأب هذا الصداع، اجتمع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، اليوم الأحد، مع المستشار الألماني أولاف شولتز، في قصر الإليزيه بباريس؛ بالتزامن مع الذكرى الـ 60 لإطلاق معاهدة الصداقة بين بلديهما، فهل هي محاولة للاصطفاف الأوروبي؟؛ في ظل المصاعب التجارية والاقتصادية التي تواجهها دول الاتحاد، أمام التكتلات الاقتصادية العالمية، وعلى رأسها بالطبع، الولايات المتحدة الأمريكية.

لقاء تأخر 4 سنوات

يأتي لقاء الزعيمين الأوروبيين بعد أشهر من اضطراب، شَابَ العلاقة بين باريس وبرلين؛ وذلك بعد إلغاء اللقاء الذي كان مقررا له في أكتوبر 2022، ويعد لقاء اليوم، هو الأول بين البلدين منذ 2019، وذلك بعيدا عن اللقاءات المجمعة داخل أروقة هيئات الاتحاد، حيث شهد اللقاء، حضور وفد كبير من مسئولي البلدين لمناقشة كافة الملفات.

العلاقات الفرنسية – الألمانية غالباً ما تشهد- في فترات كثيرة- توترات وتباينات ثنائية حول العديد من القضايا المشتركة، وزادت حدة هذه الخلافات بين البلدين بشكل ملحوظ؛ في إطار انعكاسات الحرب الروسية الأوكرانية، التي ألقت بتداعياتها على القارة الأوروبية، والمقلق، أن الخلافات تأتي؛ وسط تحديات خطيرة نتيجة الحرب الأوكرانية، كما أنها تساعد على تعميق الانقسامات، بينما تحتاج أوروبا إلى الوحدة.

 

ماكرون: أصبحنا قارة عجوز.. وعلينا إعادة تأسيسها

في اعتراف واضح بما تمر به القارة من شيخوخة تتناسب، مع لقبها كـ«قارة عجوز»، دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خلال لقائه مع شولتز، لأن تكون فرنسا وألمانيا رائدتين من أجل إعادة تأسيس أوروبا، وذلك في كلمته التي ألقاها في السوربون، بمناسبة الذكرى الستين لمعاهدة الإليزيه، التي أرست المصالحة بين البلدين.

وأضاف ماكرون، في محاولة لإعادة إطلاق الشراكة بين بلديهما؛ "يجب أن تصبح ألمانيا وفرنسا رائدتين؛ من أجل إعادة تأسيس قارتنا الأوروبية، لأنهما مهدتا طريق المصالحة.

وتأتي زيارة شولتز؛ في أعقاب تصريحات لبيربلباس رئيسة البوندستاغ (مجلس النواب الألماني) تحدثت فيها عن إحياء التحالف الفرنسي-الألماني، بوصفه "محرك أوروبا" وعن ضرورة "إظهار القدرة على التحرك الدولي، واستعادة الأمن المشترك"، مشددا على ضرورة الدفع باتجاه "اتحاد أوروبي قادر على إثبات نفسه، كقوة جيوسياسية كاملة، في مجالات الدفاع والفضاء والدبلوماسية.

الصراع الأوروبي الأمريكي يتصاعد

وربما جاء هذا اللقاء الأوروبي الداخلي، في محاولة لمواجهة التحديات التي تواجه القارة العجوز، خصوصا الصراع التجاري والصناعي مع الولايات المتحدة الأمريكية، والذي شهد تصادعا كبيرا في نوفمبر الماضي، بعد أن هاجم القادة الأوروبيين، الإعانات الضخمة التي تمنحها الولايات المتحدة للشركات على أراضيها، ملوحين بملاحقاتها أمام منظمة التجارة العالمية؛ وهو ما أجج النزاع التجاري بين ضفتي الأطلسي.

ويأتي تصاعد التوترات بين القوتين الغربيتين الكبيرتين؛ بعد إقرار "قانون خفض التضخم" في الولايات المتحدة خلال الصيف، حيث يعد هذا القانون، أكبر استثمار تم إقراره في مجال مكافحة تغير المناخ، إذ يرصد 370 مليار دولار لبناء العنفات الهوائية والألواح الشمسية، ودعم قطاع السيارات الكهربائية.

ومن بين التدابير التي استقطبت الانتقادات؛ خفض ضريبي يصل إلى 7500 دولار مخصص لشراء سيارة كهربائية من مصنع في أمريكا الشمالية، مع بطارية محلية الصنع، وبالتالي، استبعاد السيارات المصنعة في الاتحاد الأوروبي.

وتثير هذه الخطوة، غضب أوروبا ،وتتهم الولايات المتحدة بتوفير دعم استثنائي للشركات المنتجة على أراضيها؛ وهو ما يتعارض تماما، في رأي الأوروبيين، مع قواعد التجارة العالمية.

وبعد توجيه انتقادات على مدى أسابيع؛ لوح مسؤولون أوروبيون، الإثنين، باللجوء إلى تدابير قضائية، وخلال الأشهر الأخيرة، تم التطرق صراحة إلى خطر اندلاع "حرب تجارية" بين المنطقتين الحليفتين، واحتمالية اندلاع "حرب جمركية كبرى".

ورغم اللقاء الذي جمع بين الطرفين، وتعهدهم بحل الخلافات حول قانون خفض التضخم الأميركي؛ إلا أن الاتحاد الأوروبي لا يزال ينتظر ردا أكثر قوة من الولايات المتحدة، في ما يتصل بمخاوفهم حيال قانون خفض التضخم، حسب مسؤولين أوروبيين تحدثوا بشرط عدم الإفصاح عن هوياتهم، في تصريحات لصحف عالمية، وعزز ذلك شعور احتياجهم إلى تقوية البيت من الداخل الأوروبي، قبل التفاوض مع أي قوى أخرى.

 

ماذا تريد دول الاتحاد الأوروبي من واشنطن؟

تتوقف الأزمة التجارية بين دول الاتحاد وواشنطن، على الاستجابة لمطالب الاتحاد، حيث احتج المسؤولون السياسيون الأوروبيون بأن قانون خفض التضخم الأميركي يلحق الضرر بالشركات الأوروبية، ويجذب الاستثمارات للولايات المتحدة.

وقالت رئيسة المفوضية أورسولا فون دير لاين: “أوروبا ستقوم دائماً بما هو ملائم لها .. نعم، سيرد الاتحاد الأوروبي بأسلوب مناسب ومحسوب جيدا على قانون خفض التضخم الأميركي".

ويضغط الأوروبيون للحصول على إعفاءات من قوانين الولايات المتحدة مشابهة لما تحصل عليها بلدان أميركا الشمالية، لكن في حين يتفقون على التفاصيل؛ يطمح السياسيون إلى وضع خطة أوروبية تنافس الخطة الأميركية.

وقد أثارت فون ديرلاين في خطابها أمام “كلية أوروبا”، عدداً من الأفكار الجدلية، بما فيها تعديلات في قوانين الإعانات الحكومية؛ لدعم إنتاج التكنولوجيات الأساسية، علاوة على التمويل الأوروبي للتكنولوجيا النظيفة عبر خطة “ري باور إي يو” (REPowerEU) الحالية، و”صندوق السيادة”المرتقب.

 

كيف تعمق خلافات فرنسا وألمانيا أزمة الاتحادالأوروبي؟

يمكن توضيح أبرز القضايا الخلافية بين باريس وبرلين؛ عبر استعراض وجهتي نظر البلدين في بعض الملفات، لمعرفة مداها، وحدود تأثيرها مستقبلاً، وذلك من خلال النقاط التالية:

1- أزمة الطاقة: يتمحور الخلاف في هذا الملف حول عدة أمور، أولها: معارضة ألمانيا لتحديد سقف لأسعار الغاز؛ خوفاً من نقص الإمدادات، على عكس معظم دول الاتحاد الأوروبي، وفي مقدمتها فرنسا.

والأمر الثاني، يرتبط بإطلاق الحكومة الألمانية- في 21 أكتوبر الماضي- برنامجا بقيمة 200 مليار يورو؛ للتخفيف من الأعباء الناجمة عن ارتفاع أسعار الغاز والكهرباء على المواطنين والشركات بها، وهو ما اعتبرته دول التكتل الأوروبي- وعلى رأسها فرنسا- أنه سيؤثر على المنافسة؛ لأن بقية الدول لا يمكنها إطلاق برنامج بهذا الحجم.

2- الملف الدفاعي الأوروبي: تتباين المقاربتان، الفرنسية والألمانية، فيما يتعلق بتطوير الأمن الأوروبي، وسياسة الدفاع الأوروبية المشتركة؛ إذ تريد برلين الاعتماد على الولايات المتحدة في تطوير أنظمتها الدفاعية، فيما تسعى باريس إلى لتعزيز الاستقلال الأوروبي عن التأثير الدفاعي الأمريكي بشكل عام.

3- العلاقات مع الصين: وافق الائتلاف الحاكم في ألمانيا بقيادة شولتز، على السماح لشركة الشحن الصينية العملاقة "كوسكو شيبينغ هولدنجز"، بالاستثمار في أكبر ميناء في ألمانيا، بمدينة هامبورج الشمالية؛ الأمر الذي أثار خلافا مع فرنسا، لأن ماكرون كان قد دعا دول الاتحاد الأوروبي، لإعادة تقييم علاقتها مع بكين، معتبرا أن السماح للأخيرة بالاستثمار في البنية التحتية للموانئ الأوروبية "خطأاستراتيجي".

وتصاعد الخلافات، وما تُخفيه من تنافس مُبطَّن، بين ألمانيا وفرنسا في الوقت الحالي؛ من شأنه أن يؤدي إلى مزيد من التراجع داخل الاتحاد الأوروبي على عدة مستويات، وفق دارسة بحثية حول هذا الخلاف، كالتالي:

1- تقليل نجاح المشروعات المشتركة: بمعنى أن فرص نجاح المشروعات الأوروبية المشتركة ستظل محدودة، مع استمرار الخلافات بين فرنسا وألمانيا. فمثلاً، إذا لم تدعم ألمانيا مشروع خط أنابيب نقل الهيدروجين والغاز بين فرنسا وإسبانيا والبرتغال، فإن ذلك من شأنه أن يُضعف قيمة المشروع في حد ذاته. وفي المقابل، قد لا تتمكن برلين من إنجاح مشروعها الدفاعي (الذي تم الإعلان عنه دون مشاورة مع باريس)، من دون الدعم الفرنسي، خاصةً في ظلمعاناة معظم الدول الأوروبية من أزمات اقتصادية.

 

2- زيادة الانقسامات الأوروبية: من المعروف أن ألمانيا وفرنسا تنسقان عادةً قبل قمم الاتحاد الأوروبي، وبمجرد التوصل إلى اتفاق بين البلدين؛ تُشكِّل مواقفهما بشأن القضايا الرئيسية، خريطة طريق للعمل الأوروبي، لكن في حالة وجود خلافات ثنائية؛ فإن ذلك من شأنه أن يؤدي إلى تعميق الانقسامات الداخلية الأوروبية، مع عدم التوصل لقرارات تصب في صالح الاتحاد، بما يرسل بدوره رسالة للخارج، سواء للحلفاء أو الخصوم، لا تعكس التضامن والوحدة بقدر ما تُبرز التفكك والانقسام، خاصةً مع تزايد الخلافات واتخاذ الدول الصغيرة في الاتحاد مواقف متباينة تدعم طرفاً على حساب الآخر.

3- تهديد بقاء الاتحاد الأوروبي: ثمة أزمات مقلقة داخل الاتحاد الأوروبي، تتعلق بحجم ديون دول الاتحاد، وآليات الإنعاش الاقتصادي، ومدى الالتزام بالمعايير الديمقراطية في بعض الدول، والتفاوت الاقتصادي والتنموي أساسا بين شرق وغرب أوروبا. 

وقد كان التنسيق والتعاون الفرنسي - الألماني، يمثل حائط صد أمام تفاقم مثل هذه الأزمات، بالشكل الذي يهدد بقاء الاتحاد نفسه، أما تصاعد الخلاف بين هاتين القوتين؛ قد يؤدي إلى أمرين؛ الأول: هو تفريغ فكرة الاتحاد من مضمونها؛ وجعلها بمنزلة "آلية صمَّاء" لا تستمع لمطالب أعضائها، والثاني: هو انقسام الاتحاد على نفسه؛ بين مجموعة دول تدعم فرنسا، وأخرى تقودها ألمانيا، وأن تتحول مركزية الوحدة الأوروبية، إلى مجرد فكرة غير عملية؛ بما يدعم توجهات التيارات القومية في إعلاء مصالحها الوطنية على مصلحة الاتحاد الأوروبي، خاصةً في أوقات الأزمات.