الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

في شـــخصية مصــر السياســـــية


عرضنا في الجزء الأول من هذا المقال جوانب مهمة من رؤية الدكتور جمال حمدان لمصر‏..‏ وهنا التتمة‏..‏ من الوحدة إلى المركزية‏،‏ جاءت خطوة منطقية أخرى إلى الأمام.

ولكن من المركزية إلى الطغيان تمت خطوة أخيرة ومؤسفة إلى الوراء عن الأولى، فلا جدال أن الدولة المركزية، والمركزية العارمة ملمح ملح وظاهرة جوهرية في شخصية مصر، لا تنفصل ولا تقل خطرا عن ظاهرة الوحدة نفسها ولا تختلف في عواملها وضوابطها الطبيعية عن قوة المركزية الجغرافية والوحدة الوظيفية، وطبيعة الري في البيئة الفيضية، وعلى الرغم من الامتداد الطولي الخطي الجسيم، فرضت المركزية السياسية والإدارية ثم الحضارية نفسها فرضا ـ في شكل حكومة ـ طاغية الدور فائقة الخطر وبيروقراطية متضخمة متوسعة أبدا وعاصمة كبرى صاعدة إلى أعلى صاروخيا وشامخة فوق البلد غالبا، يصدق هذا منذ الفرعونية حتى اليوم وبلا استثناء تقريبا ومنذئذ وإلى الآن كقاعدة أيضا، أصبحت المركزية الحكومة، البيروقراطية، العاصمة أطرافا أربعة أو مترادفة لمشكلة واحدة مزمنة ولمرض مستعص تقريبا.
على أن السمة الأكثر سلبية والمرض المدمر حقا إنما هو تردي المركزية إلى الاستبداد والطغيان، ومهما اختلفت التسميات بين الطغيان الفرعوني أو الإقطاعي، وسواء عد هذا قطاعا عاديا من الاستبداد الشرقي بنمطه المعروف أو عد قمته وأعتى صوره كما يرى الكثيرون، وأيا كانت النظريات المطروحة في تفسيره من نمط الإنتاج الآسيوي إلى المجتمع الهيدرولوجي وبيئة النهر والري والزراعة الفيضية، فإن الطغيان والاستبداد الغاشم الباطش هو من أسف حقيقة واقعة في تاريخ مصر من بدايته إلى اليوم مهما تبدلت أو تعصرت الواجهات والشكليات.
وسواء كانت مصر أم الدنيا أو أم الديكتاتورية، أو كان حاكم مصر هو أقدم أمراضها كما يذهب البعض، فلا شبهة في أن الديكتاتورية هى النقطة السوداء الشوهاء في شخصية مصر بلا استثناء، وهى منبع كل السلبيات والشوائب المتوغلة في الشخصية المصرية حتى اللحظة، ليس على مستوى المجتمع فحسب ولكن الفرد أيضا، لا في الداخل فقط ولكن في الخارج كذلك.
ولقد تغيرت مصر الحديثة في جميع جوانب حياتها المادية واللامادية بدرجات متفاوتة، إلا نظام الحكم الاستبدادي المطلق بالتحديد والفرعونية السياسية وحدها، فهى لاتزال تعيش بين (أو فوق) ظهرانينا بكل ثقلها وعتوها وإن تنكرت في صيغة شكلية ملفقة هى الديمقراطية الشرقية أو بالأحرى الديموكتاتورية.
والمؤكد أن مصر المعاصرة لن تتغير جذريا ولن تتطور إلى دولة عصرية وشعب حر إلا حين تدفن الفرعونية السياسية مع آخر بقايا الحضارة الفرعونية الميتة.
من هنا جميعا فإذا كنا جادلنا بأن الكلام عن شخصية مصر لا يعني إقليمية ضيقة فضلا عن شوفينية شعوبية، ولايضع الوطنية في مواجهة ضد القومية، فإننا نضيف الآن أنه لا يؤكد الوطنية من خلال القومية فحسب بل ويؤكد القومية من خلال الوطنية تأكيدا صحيا بغير تعارض، وإذا كانت بعض البلاد مثل الولايات المتحدة نجحت وحدتها لأنها ـ كما قيل ـ تجاهلت عمدا وعن قصد كل الجغرافيا وكل التاريخ، وإذا كانت بلاد أخرى مثل كندا تعاني وحدتها لأنها تتذكر الجغرافيا أكثر مما ينبغي وتتذكر التاريخ أقل مما ينبغي، وإذا كانت بلاد أخرى مثل غرب أوروبا تتعثر وحدتها لأنها تتذكر كثيرا جدا من التاريخ وقليلا جدا من الجغرافيا، إذا كان هذا فإننا في الوطن العربي يمكن أن تنجح وحدتنا أكثر كلما تذكرنا الجغرافيا والتاريخ معا أكثر وأكثر، لأن التاريخ يجمعنا مثلما تفعل الجغرافيا، والمكان والزمان عوامل وحدة بيننا، بل ربما جاز لنا أن نقول إن الجغرافيا والتاريخ هما طوب وحدتنا العربية وملاطها أو هما لحمتها والسداة.
وبعد، فلقد كان ضروريا قبل أن نمضي إلى شخصية مصر بإفاضة أن نضغط على المغزي الفكري للدراسة حتى لا نترك مجالا لتخريج أو تأويل مبتسر، فما نرى في شخصية مصر مهما تبلورت أو تجوهرت إلا جزءا من شخصية الوطن العربي الكبير الملحمية الثرية، ولا نرى في دراستها تعارضا أي تعارض مع أمل الوحدة الشاهق ومع ذلك فقد عقدنا بابا كاملا مطولا ذا فصول يضع مصر بين العرب في الإطار التكاملي القومي الشامل مثلما يضع الوطنية في إطارها الصحيح من القومية ويعقد صلحا علميا وعمليا وحياتيا أبديا بين قطبيها المتجاذبين لا المتنافرين.
ومصر بالذات محكوم عليها بالعروبة والزعامة، ولكن أيضا بتحرير فلسطين، وإلا فبالإعدام، فمصر لا تستطيع أن تنسحب من عروبتها أو تنضوي على نفسها حتى لو أرادت ـ كيف؟ وهى إذا نكصت عن استرداد فلسطين العربية كاملة من البحر إلى النهر وهادت وهادنت وخانت وحكمت عليها بالضياع، فقد حكمت أيضا على نفسها بالإعدام، بالانتحار، وسوف تخسر نفسها ورصيدها، الماضي كالمستقبل، التاريخ والجغرافيا.
لكن مصر رغم ثلاثية النكبة فالنكسة فالكارثة العظمى، لا يمكن أن تركع وتستسلم للعدو تحت أي شعار زائف أو ستار كاذب، ومصر مستحيل أن تكون خائنة لنفسها ولشقيقاتها، وليس فيها مكان لخائن أيا كان موقعه كما اتهمها البعض أخيرا، ورغم كل شيء، فإن كل انحراف إلى زوال، وإن عجز الشعب المغلوب ـ على أمره عن كسحه إلى سلة قاذورات التاريخ، فلسوف يفعلها التاريخ نفسه ولن تصبح مصر دولة حرة قوية عزيزة متقدمة يسكنها شعب أبي كريم متطور إلا بعد أن تصفي وجود العدو الإسرائيلي من كل فلسطين، فبهذا، وبه وحده، تنتقم لنفسها من كل سلبيات تاريخها وعار حاضرها، وإلى أن تحقق هذا فستظل دولة مغلوبة مكسورة راكعة في حالة انعدام وزن سياسي تتذبذب بين الانحدار والانزلاق التاريخي، دولة كما يصمها البعض شاخت وأصبحت من مخلفات التاريخ تترنح وتنزاح بالتدريج خارج التاريخ ـ وذلك ـ نحن نثق ـ لن يكون غير أن على مصر، كما على العرب، أن ترتفع إلى مستوى التحدي والمسئولية: الأولى بأن تعطي العرب قيادة عبقرية جديرة قادرة لا قيادة قميئة عاجزة خائرة، والثانية بأن تعطي مصر كل شحنة وطاقة من القوة المادية والمعنوية تدير بها الصراع، إن مصير مصر ومكانتها في العالم سيحددها مصيرها ومكانتها في العالم العربي، ومصيرها ومكانتها في العالم العربي سيحدده مصير فلسطين.
تأمل قوة العبارات وصرامتها أسباب أخرى للاغتيال ربما وينهي جمال حمدان مقدمته الثرية بالعبارة التالية: عسى دعنا نأمل ـ أن يجد كل مصري نفسه في هذا الكتاب، ولسوف يرضى ولقد صدق! وإن دار هذا المقال حول مقدمة العمل، فما بالك بمتن السفر الرائع البديع حقا؟
"الأهرام اليومى"