التفكير العلمي.. وطوق النجاة

المتدبر
لأحوالنا المعاصرة يرى غلبة الارتجالية والذاتية والانفعالية والعاطفية والتبريرية
والتحكمية على كثير من تصرفاتنا فى حياتنا العملية: في تقويم الأمور، أو في تفسير
الأحداث أو فى تحديد المواقف واتخاذ القرارات
– وهذه
إشكالية خطيرة تدفع المجتمع إلى أزمات خطيرة، تجعلنا نرتد إلى الوراء ولا نستشرف
المستقبل.
والعلاج لهذا
الخلل يتأتَّى بتنمية التفكير العلمي وسيادة الروح العلمية، وأعني بالتفكير العلمي
والروح العلمية: ظهور وتكشُّف حقائق الأشياء، وللتفكير العلمى ملامح أهمها:
- أهمية الشورى وتقبل النقد والرأي
الآخر، حتى لا يحرم المسئول أو القائد ذكاء من حولـه، ورحم الله عمر بن الخطاب
الذي قال: «رحم الله امرَأً أهدى إلىَّ عيوبي».
وفى ساحة
العلم: من ينقدك فإنما يؤلف معك. وكان النبى يعلم أصحابه
الشورى، على نحو ما رأينا فى غزوة بدر حيث أشار حباب بن المنذر على النبى بأن
ينـزل فى مكان محدد يضمن له السيطرة على الموقع.
الإقناع والحوار الذى يعتمد على
الحجة، مع احتـرام آراء المخالفين، وحسبنا أن نتأمل الحوار القرآنى، حيث يقرن
الأمر بعلته، من ذلك وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ / 13 ، وقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَىٰ أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَىٰ
أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ
ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ الحجرات / 11 ، ويدفع القرآن الشبهات بالمنهج العقلى من ذلك آخر
سورة يس ﭽ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﭼ يس وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي
الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ { 78 } قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ
مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ / 78 :79
· ويؤكد التفكير العلمى أن العلاقة
بالآ خر تقوم على السماحة والعدالة واحترام حقوقه، من ذلك أن
القرآن الكريم أكد أن اختلاف الدين لا يجوز أن يكون مدعاة للظلم أو التغابن ، وأنه
إذا كانت هنالك أطراف معادية وبيننا وبينها خصام ، فذلك كله يجب إبعاده عن مقتضيات
العدالة ، قال تعالى : يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا
تَعْمَلُونَ المائدة / 8
ومن سمات التفكير العلمي نقد الذات
بين الحين والحين، كي يستدرك المرء على نفسه .. ويكتشف مواضع الخلل ويحدد طرق
العلاج، قال النبى : «الكَيِّس
من دان نفسه».
يضاف إلى هذا أهمية أن تبنى الأحكام
والقرارات على الأمور اعتمادًا على الحقائق الثابتة، لا على الهوى أو الظن فاتباع
الهوى يصل بنا إلى نتائج مضللة، قال الله تعـالى:
يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ / 26 ، وقـــال تعالى:
وَمَا
لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ ۖ إِنْ يَتَّبِعُونَ
إِلَّا الظَّنَّ ۖ وَإِنَّ الظَّنَّ
لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ
شَيْئًا النجم/28.
والتفكير العلمى حصن من سقوط
الإنسان أسيرًا للتقليد الأعمى، فيصاب بالركود الفكرى والجمود العقلى، فتصير
عاجزًا عن التفكير والاختـراع والإبداع، فتكون عالة على غيرك. وهذه قيمة أكدها
القرآن الكريم، قال تعالى:
وَإِذَا
قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا
بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا
عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ
لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا
يَهْتَدُونَ البقرة/170، فلا تعطل عقلك،
بل فكر وتأمل، وكلما زادت دربتك على التأمل والتفكير ارتقت قدراتك العقلية على
الوعى والفهم وإدراك الحقائق.
وعشرات
الآيات في القرآن دعوة إلى إعمال العقل والتأمل فقـد تكرر كثيرًا فى القرآن: كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( .. والفهم والتدبر والتفكر
ألفاظ تكررت فى آيات القرآن الكريم فى سياق حملته على الجمود والتعصب ودعوته
لإعمال العقل. ويعلمنا القرآن أن لا نقبل أمرًا بدون بينة أو دليل،
قال تعالى: وَقَالُوا
لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ
أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } البقرة/111.
ويحذر المنهج العلمى من التحرك بدون
تخطيط، بل لابد من امتلاك رؤية للمستقبل، مع تحديد الأهداف والطموحات، وأمامنا
نموذج قرآني للتخطيط الممتد خمسة عشر عامًا لمواجهة أزمة غذائية بمصر، حيث اقتـرح
سيدنا يوسف على الملك أن يتـرك القمح فى سنبله حتى لا يفسد، وتخفيض معدل الاستهلاك
فى الطعام فى أيام السعة والرخاء، قال تعالى: قَالَ تَزْرَعُونَ
سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا
مِّمَّا تَأْكُلُونَ يوسف/47 . ولنا فى
رسول الله سيدنا محمد أسوة فى
تخطيطه للهجرة من إعداد الزاد والراحلة والدليل والرفيق والتمويه ومن يمحو الأثر
وإرسال من يمهد له فى المدينة ... إلخ. مع أهمية مراعاة تخطيطك لسنن الله الكونية،
فى التمكين أو الانـهيار، وتغير المجتمعات، وسنن النصر والهزيمة.
ويدعم التفكير العلمى القدرة على مواجهة الأزمات
الطارئة دون انـهيار، وفي السنة يمكن أن نجد فقها كاملاً للأزمات. من ذلك:
النبى وأسلوب
الحوار والشورى فى تحديد موقع القوة ببدر، ورأى خباب بن الأرت، حين سأل: أهو الوحى
أم هو الرأى والمشورة؟! فقال النبى : «بل هو
الرأى والمشورة» فأشار خباب على المسلمين بالنزول قريبًا من الماء، وكان هذا أحد
أسباب النصر للمسلمين.
وهكذا .. فى سياق التفكير العلمى لا
مكان للجمود ولا للتعصب ، إذ إن التعصب انتحار للعقل .. إنه عزلة عن كل إيجابية
وطريق إلى كل سلبية ...
مؤكد أن العشوائية والفردية والتعصب
الأعمى عقبة كؤود فى طريق النجاح وبناء المستقبل .
وما يعقلها إلا العالمون
وما يذكر إلا أولوا الألباب