لا يمكنك توصيفه كشهر عابر يمكن أن يمر مرور الكرام مثل بقية الشهور له طابع خاص وطعم مميز فى أفواه المصريين دون غيرهم من شعوب العالم، فهو ليس شهر دينى فقط يتعبد فيه المسلمون ويصومون حتى سماع صوت المدفع بل تتخطى أجواءه الفلكلورية كل المسافات لتقرب البعيدين وتذيب الفوارق وتهدى العصاة تحت راية واحدة تبرز ملامحها الوان الخير والكرم و السلام..
الجميع يعلمون رمضان وطقوسه بصورة فطرية وتلقائية لكن قطاع كبير يجهل مصدر تسمية الشهر الكريم ولعل الكلمة مأخوذة عن (رمض) بحس ما أتفق اللغويون بشكل كبير فى عدة معاجم عربية وتعنى أشتد حرة والبعض أرجعها الى شدة حرارة المناخ الذى يأتى فيه شهر رمضان بينما رأى البعض الأخر أنها تعود لشدة الحرارة التى تكون فى جوف الصائم خلال فترة صيامة وفى كلا الحالتين لا يبتعد المعنى اللغوى كثيرا عن المفهوم العام الجامع للحال الذى يأتى به الشهر الكريم ..
وسوف أستعرض عدة حقائق مختلفة قد تحمل مفاجأت فى هذا المقال لم تكن فى اذهان الكثيرين أو بمعنى أخر لم يدقق فيها المدققون من قبل حتى وأن تم المرور عليها فى بعض المراجع بأيجاز .. ويجدر بنا القول أن عبارات وحوى يا وحوى التى تعنى أقتربوا وأيوحا أو الهلال أى أقتربوا لرؤية الهلال هى عبارة فى أصلها مقتبسة من اللغة القبطية القديمة كذلك عبارة (حالوا يا حالوا ) أى يا شيخ أفرح ..مصرية رمضان نجحت فى دمج ثقافات مختلفة بأنسيابية غير مسبوقة لتخلق لنا ما يشبه بانوراما تراثية مرئية ومسموعة تضرب بجزورها فى الأرض حتى مئات السنين .
اذا أردنا أستعراض اليوم الرمضانى المصرى الأصيل سنجده برونقه وجاذبيته التى يتوقف عندها فى كثير من الأحيان العديد من السياح ممن حالفهم الحظ و أتوا الى مصر خلاله .. من أين نبدأ؟ وكيف نصف هذا التناغم الخرافى الذى يدخل المصريين بمختلف أطيافهم فى حالة فريدة تعيدهم الى عهود بعيدة مضت وأصبحت تاريخا فى صفحات مجلدات أصفر ورقها وتأكل بفعل الزمن؟؟
ينتهى الصيام بمجرد أطلاق مدفع الأفطار ليبدأ الصائمون فى تناول الطعام المعد من الصباح الباكر أو الليلة التى تسبقه لتجدها مليئة بكل ما لذ وطاب من المشهيات والمشويات والولائم التى تفوح رائحتها لتصل الى البيت المقابل لها , الأمر لا يتوقف على المأكولات التقليدية فقط لكن لرمضان العديد من الأطعمة المميزة التى ينفرد بها عن غيره من بقية أشهر السنة ,فتجد الياميش الطازج من قراصية ومشمشية و قمر الدين بخلاف مشروب العرقسوس و التمر الهندى والسوبيا التى تشكل ملمح هام من ملامح المشروبات الرمضانية وهى التى تقدم أيضا فى الفنادق الخمس نجوم أو الفايف ستارز داخل خيم الأفطار بشكل أساسى ولا تكتمل المائدة من دونها ..كل تلك المشروبات لا تضاهى شهرة مشروب الخشاف الشهير الذى يعتبر الكوب الأصلى على مائدة كل منزل مصرى خلال شهر رمضان ويكون مزيجا من التمر المجفف و المكسرات المتنوعة و أنواع أخرى من السكريات وهو معروف بمنحه طاقة عالية للصائمين طيلة ساعات النهار ..وتمتد أواصر الأقارب والمعارف المنقطعة طيلة العام بسبب ضغط الظروف و المشاغل خلال رمضان وتتبادل الأسر الزيارات لتناول الأفطار سويا ويهادون بعضهم الحلويات الرمضانية المختلفة مثل الكنافة والقطايف التى تعود صناعتها الى عهد الفاطميين ولعل قصة الكنافة تمتد صلاتها الى عهد الخليفة معاوية بن أبى سفيان كما ذكرت بعض كتب السيرة ,حيث وصف له طبيبه السريانى تناول وجبة تحوى نشويات عالية وسعرات حرارية فى نفس الوقت لعلاج معدته ,فكلف الطهاة بأعداد الوجبة فى حين لعبت الصدفة دورا كبيرا فى الموضوع وسقطت قطرات من مغرفة أحد الطهاة على قدر ساخن لتأخذ شكلا مجدولا ومذاقا طيبا وأستحسن الطهاة الفكرة وطوروها ووضعوا عليها سكر (الشربات ) لتصبح الكنافة المتعارف عليها حاليا ثم تطورت ليصبح منها النابلسية والفواكة والمكسرات وغيرها من التقاليع التى ينبغ فيها (الكنفانى ) ويتسابق فيها مع نظيرة ليستطيع جذب الزبائن من كل صوب وحدب .. تتجلى أنواع أخرى من الأطعمة فى رمضان وهى المقبلات وتحديدا (الطرشى ) الرمضانى والذى لا يمكن أن ينتهى الشهر دون أن يقبل المصريين عليه ويكون مميزا عن بقية أصناف الطرشى الأخرى ويكون معدا قبلها بشهور ومتبلا بأنواع مختلفة من التوابل مثل الكركم الذى يمنحة اللون المائل قليلا للأصفرار والشطة التى تصبغة باللون الأحمر مع خلطة خاصة يعتبرها الطرشجى بمثابة سرا من أسرار المهنة وفى نفس الوقت مصدر رزق بالنسبة له .
أهل الخير كثيرون ويتجلى خيرهم بكثرة خلال شهر رمضان ولا تصدق من يدعى أن الخير أصبح وهما سافر مع الرياح الى غير رجعة وموائد الأفطار خير دليل عليها سواء التى يحضرها بعض المشاهير أو حتى الباغين فى كسب ثواب من أتباع الطبقات المتوسطة ,حيث تجدها مليئة بالأطباق بمجرد سماع صوت الاذان وترتسم ملامح الأمل مجددا على وجوه البسطاء والغير قادرين بعد دعائهم لأصحاب المائدة ثم يعودون فى اليوم التالى مرة أحرى وفى نفس الموعد ليجدوا طبقهم فى أنتظارهم فى نفس المكان ..وتبرز عدة أسماء من أباطرة الموائد ممن يحرصون سنويا على تحضيرها مثل الفنانة شيريهان و لوسى و فيفي عبدة وتامر حسنى .. ولا تتعجب اذا رأيت قبطيا يحضر مائدة للصائمين متبرعا بها من ماله الخاص فكان ولازال البعض يحرصون على هذه العادة فى حى شبرا ويرفضون الأعلان عن أنفسهم لعدم ضياع أجرهم عند الله كما تقدم بعض الكنائس وجبات جاهزة ومشروبات عن طريق مندوبين لهم للعابرين فى الشوارع والذى لم يسعفهم الوقت فى الجلوس على مائدة أو تأبى عليهم نفسهم ويتحرجون من ذلك.. ولم لا وقداسة البابا الراحل شنودة الثالث كان أول من سن تلك السنة وكان حريصا على تنظيم مائدة أفطار سنويا فى رمضان يحضرها جميع أطياف الأمة فى محاولة لبث الود والدفء فى العلاقات التى لم تفسدها الكوارث و لن تقوى عليها الأزمات لأنها فى رباط الى يوم الدين مهما كره الكارهين .
لم يفوتنى ذكر ما فرض نفسه على أرض الواقع من ذوى الأيادى البيضاء والذين قرروا أن يدخلوا البهجة على المصريين فى مقتبل الشهر ىالكريم بطرح سلع كهربائية وغذائية بأسعار مخفضة قد تصل الى النصف وعلقوا لافتات تحت رعاية محافظة القاهرة معلنين عن ميلاد أسواق موازية جديدة فى حى الترجمان وناهيا بالجيزة حملت أسماء نجوم كبار فى عالم الأستثمار وهم عيد لبيب رجل الأعمال ومالك مجموعة عيد لبيب و طاهر الأزهرى وخالد حسانين ..أيا كان المجهود الذى بذلونه فيكفى أنهم حاولوا وعملوا على مساندة الوطن فى ظل الأزمات الأقتصادية مما يضع حملا أكبر على بقية رجال الأعمال الذين وصلوا لما هم فيه من خير البلد لكى يكملوا عملية البناء التى بدأها الرئيس عبد الفتاح السيسى ويساهموا بكل ما لديهم من غالى وثمين فى مناهضة الغلاء وفتح أفاق أقتصادية جديدة ..
أعشق التنزه فى شوارع حى الحسين والسيدة نفيسة و بعض الأماكن الأخرى فى القاهرة الفاطمية ,أستشعر فيها بعبق الزمان وعادة ما يكون معى صديقى الصحفى الصوفى رضا الفقى الملم بدهاليز تلك المناطق وبعد أن نأخذ جولتنا ومشاهدة تجار الجلود والأخشاب والعطور و الأنتيكات ,نبحث عن مقهى مثل الفيشاوى نحتسى عليه المشروبات المختلفة ونحن نتأمل فى سماء القاهرة الصافية ونستمع الى تواشيح النقشبندى و الأغانى الرمضانية العتيقة (مولاى ورمضان جانا و هاتوا الفوانيس وأهو جه يا ولاد )وغيرها.. ونندمج مع المتسابقين في دور طاولة أو دومينو أو كوتشينه لعدة دقائق ثم نرجع نحلق بمخيلاتنا فى أيقونات رسمها الزمن لمنازل أثرية مبنية على الطراز الفاطمى والمصرى القديم شاهدة على تعدد الحضارات وتناوبها على مصر المحروسة عبر الأجيال والعهود.
الفوانيس معلم رئيسى من معالم مصر فى رمضان ,فقد تنوعت طرق صناعته وخاماته خلال السنوات بين الخشب والمعدن و القماش والفانوس فى أساسه هو قنديل يساعد على الرؤية فى الظلام تحول بعد ذلك الى فلكلور شعبى وصناعة مستمرة كل عام خلال شهر رمضان يشتريه الأطفال والكبار كما يستخدمه البعض لإنارة مدخل العمارة أو الحارة ويكون حجمه أكبر من فوانيس الزينة الأخرى ..
وانتشرت على مستوى العالم أنتشارا ساحقا حتى باتت جمهورية الصين تتفنن فى تقليده وتطويره وتزويده بمحرك للعمل بالكهرباء و إصدار موسيقى والتحدث فى أحيانا أخرى .. ويبقى ضى القمر مسلطا على الطريق ينير خط سير (المسحراتى ) أهم شخصية تلعب دورا محوريا خلال شهر رمضان ,فتسترق السمع على تمتمات طبلته وصوته الجاهورى القادم من بعيد شيئا فشيئا ليوقظ النائمين للسحور ثم تخرج أحدى الأمهات تلقى اليه بعملة معدنية لينادى على أسم نجلها أو زوجها أو نجلتها فتسمعه يصيح (أصحى يا نايم وحد الدايم ) ..ثم ينتهى دوره ويعود الى ثكناته مرة أخرى لتجده فى أخر يوم من الشهر يمر على المنازل منزلا منزلا معه قفة أو وعاء من الصاج تضع له داخله ما فاض مما تكرم به الله عز وجل عليك نظير مجهوده طيلة ال30 يوما.
يتطبع الفن أيضا بالطابع الرمضانى وتتقلص أدوار برامج التوك شو وتتراجع بقوة أمام المسلسلات و الفوازير وبرامج المسابقات و الكاميرا الخفية التى تحمل فى كل حلقة من حلقاتها مقلبا مختلفا يتم ترتيبه للإيقاع ببعض الضحايا بصورة عشوائية فى مواقف طريفة.. بينما تقوم المطاعم الكبرى و النوادى الثقافية بعمل أمسيات رمضانية تتلى فيها الأشعار و الفقرات الفنية و غيرها من البرامج الترفيهية التى تدخل البهجة على النفس .