الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

قهوة سادة


" العادة " ! وما أدراك ما العادة ! إنها كُل ما يتمسك به الإنسان ربما أكثر من العِبادة ! حِرصه عليها من حِرص نفسه على الحياة ، وإن شُبه له أن تلك هي الحياة!

نمارِس عاداتنا ليلاً نهارًا ، جَهارًا مِرارًا فلا نلتفت لكم المَرارة التي تُخلف في حلوقنا ، ولا الفوضي التي تعتري قلوبنا، ولا السعادة التي نتركها بإرادة حُرة لنبحث عنها بكل الطُرق المُرة !

كُل ما يقع تحت مقصلة الاعتياد يفقد بريقه ولن تلتفت لجنونه ولا تتوقف عند مجونه ، فالوقت ترزي ماهر قادِر علي ( تأييفك ) ويجيد ( تكييفك ) مع حُلّة العادات التي اخترتها لنفسِك أو كُتبت عليك من نَفسِك !

" لقد رُزقنا حبها" ولو على قُبْحها، ذَلِك لسان حالنا عندما يتعلق الأمر بعاداتِنا ! للأسف رزقنا وَاسِع من الرِّضا والتَعلُق بل وأحيانًا التملُق لما تعودنا عليه!

التعود كشجرة جذرها ضارب في الأرض وفروعها تضرِب في الرأس ، لا تقتلعها إلا ريح صرصر عاتية !

رياح التغيير الحسن ، والإقناع الدسم ، لن تؤتي أُكلها مع صلابة جِذعها!

التغيير للعادات لا يحدث إلا عن طريق الصدمات ! ذلك النوع الذي تستحيل بعده إلي مالا يُشبه قبله !

قد تأتيك الصدمة في ثوب المَرض أو على هيئة العَرَض، في النهاية كلاهما كاف لتحقيق الغَرض!

وهذا ما فعله العَرض المسرحي " قهوة سادة " ، بكفي رقيقين ظاهرهما الإبداع وباطِنهُما الإمتاع كانت تكمُن الصدمة، بل عُذرا ، إنها صدمات ، توالت على مدى ساعتين متواصلتين هما مُدة العَرض!

أولى الصدمات عندما بدأ العرض بمشهد " الدفن" ، فكل بطل من أبطال العرض يضع صورة على التراب تحمل صورة عملاق ذهب جسده للفناء ، وفاضت روحه للسماء وقطعًا لن تَعُد !

عمالقة في الأدب والتمثيل والغناء ، ثروات بشرية فخمة، رحلت فكانت خُسارتنا ضخمة، وذلك ليس باعتراض على قضاء الله وأمره ولا علي سُنة الحياة وإنما الصدمة في أن ذلك الفراغ الذي تركه هؤلاء العمالقة لم نقوَ إلي اللحظة علي ملئه، مِصْر ولّادة بلا شك ولكن فيما يبدو أنه زمن " العّك "!

وينتهي المشهد ويبقي السؤال هل الموت هو الانتقال من ظهر الأرض لباطنها ؟ أم الموت الحقيقي هو ما يعانيه الباقون من الفراغ الذي تركه الراحلون ؟

مشهد وراء مشهد ينقلنا من صدمة إلى صدمة، كم تجملنا بالقبيح و دفعنا ثمنًا له الغالي والهّوية والنفس والنفسية والنفيس !

تجرعنا ( القهوة سادة ) حدادًا علي حماقتنا ، عندما تركنا لِجام ألسنتنا يتهاوى تدريجيًا دُونَ أن نشعُر فتراخت معه قُدرة آذاننا علي فرز الغث من السمين ، فأصبحت المرأة ( حتة) والمدموازيل ( مُزة ) والعلاقات ( شقط ) أو ربما (شحط محط )!

أما إذا كنت ذا نزعة شعرية فستأسرك أبيات الشاعر "الزفر" الذي كتب رائعته (عندما يهجع السماكون في الظهيرة ) كما جاء علي لسان أحد أبطال العرض!

زادت (مرارة القهوة ) عندما احتسيناها احتفالًا بتفرّيطْنا في تراثنا الغنائي والسينمائي بمقابل بخس من الأجولة الدولارية المشبعة برائحة الزيت الخليجي ، فانفرط مِنَّا عِقد التاريخ ، الذي أصبح في مهب الريح، وانحسر التأريخ على من يتفلسف بالأجوبة من أصحاب تلك الأجولة!

تجرعنا (القهوة سادة ) ونحن نظن أنها (شربات سُكر زيادة ) كالمسحورين أمام الدراما الهندية والمكسيكية ( فيما قبل التركية ) وتركنا البِساط يتسربل من تحت أقدام الدراما المصرية ، و تناسينا أن لهجَتِنا كانت اللهجة الوحيدة التي يَنطِقها ويفهمها الوطن العربي كلهجة ثانية لكل الدول العربية .

ولٰكن في زمن الكان يا ما كان ، عندما كان لدينا القدرة علي سرد الحكاية وصنع الرواية .

قبل أن يكون رب الفِكر هو (رأس المال ) و الموهبة مختزلة في ( قدرّك مِن الجَمال ) والكلمة العُليا للواسطة العائلية والمحسوبية المادية ، فليس عجيبًا أن يكون فيلم الموسم ( عمور الأمور ) !

مِصْر قِبلة الفن في الشرق وجواز مروره على العالم ، لِأي فنان كانت قدوته كوكب الشرق ، المعروفة ( بالست ) إجلالًا لفنها وتقديرًا لها وتكريمًا لكل ( ستات ) الدُّنْيَا ، لذا كان لِزامًا أن تكون (القهوة سادة ) بزيادة عندما أصبح لفظ ( السّت ) إشارة لأغنية ( السّت لمَا)!

نرشُف علي مِهل (القهوة السادة ) ونحن نستمِع إلي " بيت الْعِز يا بيتنا " ليس حِدادًا على " الْعِز" الذي واراه التراب ولٰكن حُزنًا على "البيت " الذي افتقدناه!

نعيش في صناديق لها أربعة جُدران مهما كانت فارهة لكنها باردة ، كما قالت إحدى البطلات ( برودة السيراميك أثرت علي أهاليها ) ، مِن الخارج مُحاطين بالمسخ العمراني وفِي الداخل مُكبلين بالتشوه الإنساني، صدقًا العين تعشق كل جميل لكنها أيضًا سريعًا ما تألف القبيح، وإلا ما كُنّا صِرنا إلي ما نحن عليه !   

كانت البيوت علي تواضعها رمزًا للعِز بمحبة أهلها ، ونموذجًا للعِزّة بأبوابها المفتوحة، يغمُرها الستر لأنها واصِلة للرحِم ، وتكتنفها السكينة لاعتنائها بسابِع جار !

كمْ كانت الصدمة قاسية في أحد مشاهِد العرض ، أننا تناسينا أهلنا وغفلنا عن دمِّنا ، إلي أن يلتقي الأخ بأخيه صدفة في شارع ويشبِّه عليه! هذا إذا كان في العُمر بقية قبل أن تتولي الشرطة العملية، لتكسر الباب على الجثة الجاثية بالداخل ولولا رائحتها المُزعجة لتأجل اللقاء لدار البقاء!

شاهدت العرض المسرحي ( قهوة سادة) في إطلاقه الأول قبل عشر سنوات علي مسرح مدينة نصر ، وأتذكر انبهاري بتلقائية أبطال العرض و قدرتهم علي صناعة الضحكة دون عناء، واليوم عندما شاهدت العرض للمرة الثانية بعد كل تلك السنوات ازداد انبهاري بالأبطال الذين نثروا الْحُزْن ببراعة من قلب براعِم الضحكات !

بالرغم أنه لم تتغير كلمة أو دور في النص كما أشار المبدع خالد جلال في بداية تقديمه للعرض ، ذلك الفنان بكل ما تحمله الكلمة ،الذي راهن علي مجموعة هواة يومًا فأصبح الْيَوْمَ كل بطل منهم له شأنه ووزنه وقيمته ، ليثبت الزمن أن خالد جلال فنان بدرجة جواهرجي له عين ثاقبة تكتشف الماس من قلب الناس.

( قهوة سادة ) رصدّت التغيير المجتمعي والنفسي والمادي والإنساني في طبيعة المواطِن المِصري ، وذلك قبل "الثورة" التي لك أن تتفق معها أو تختلف عنها لكن في كل الأحوال لن تستطيع أن تُنكِر أنها كشفت "العوّرة" !

كُتب النص المسرحي قَبْل عِقدْ من الزمان لم يَكُن فيه التوك توك وسيلة مواصلات ولا أغاني المهرجانات ، زمن لم تحتَل مِصْر فيه المركز الأول في التحرش والطلاق ، زمن لم نسمع فيه عن قتل الأبناء وبيع الأعضاء ، زمن الإرهاب الوسطي الجميل الذي أثبت رقته بعد أن أُطلق علي الأرض "الدواعش "لترتكب الفَوَاحِش وتسطُر للإنسانية فصلا جديدا مليئا بالفواجِع!

ظهر العَرض الأول للنور قبل أن يجتاح الأدب ( قِلة الأدب ) باسم حُرية الإبداع ! كان الانحدار اللفظي يقف عند منحني ( قشطة و كوول وفظيييييع ) قبل أن تتدحرج صخرة اللغة في مستنقع (ف...) و (..fu) كاستعارة جمالية للقُبح المجتمعِي!

عام ٢٠٠٨ كان قبل الغزو الإلكتروني ، كانت التكنولوجيا تَطرُق أبوابنا علي استحياء ، واليوم نحن مَن نقِف علي بابها ونتجرَع ذُلها وتمارس علينا الاستقواء ! فآلاف التطبيقات قليلها صَالِح وكثيرها طالِح.

في ذاك الوقت لم يعرِّف المجتمع عن الحيتان إلا ( حيتان ) الفساد وهي بطلة كل زمان ، و ( ويلّي ) الحوت الطيب قبل أن تطوله يدّ الزمن ويصبحَ الحوت الأزرق !

" قهوة سادة " قدمت صرخات راقية في تابلوهات ضاحكة باكية ، لنغير عاداتنا و ننتبه لسلوكياتنا ونُحافظ علي هَوّياتنا ونتمسك بما بَقِي مِن إنسانيتنا، ولكن بماذا تفيد الصرخات عِندما نغُض البصر عن الإشارات ،ونصُم الأذن عن الآهات ؟

ولا يُمْكِن أن نمُر مرور الكِرام عن أبطال العمل المتألقين ، فلقد ضربوا نموذجًا يُحتذي به في التواضع والإخلاص للعمل ، فلم يعتذِر أحد عن القيام بدوره ولو علي صِغَر مساحته التي قد لا تُناسب كِبر نجوميته، فالْكُل أمامَ الموهبةِ سواء!

أعتدت أن أتناول قهوتي " سادة " وكنت أشعر بأنها درب " للسعادة" ولكن الْيَوْمَ مع كل فنجان من " القهوة السادة " أصبحت أشعُر بطعم المرارة بزيادة!
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط