تحل اليوم الأربعاء، الذكرى الحادية والسبعين لنكبة فلسطين، فإن التمسك بالهوية ما زال يشكل الدرع الذي يحمي القضية الفلسطينية من السقوط للأبد في بئر النسيان ، ومن الواضح أن الشعب الفلسطيني بثقافته الوطنية والقومية "لم ولن يخرج من التاريخ" كما تمنى الذين شردوه من وطنه ومنحوا أبناء هذا الشعب العربي "صفة اللاجئين"!.
وهذه الذكرى للنكبة الفلسطينية التى راح ضحيتها وطن بأكمله تأتي اليوم وسط مشهد إقليمي محتقن ويحمل مهددات متصاعدة للأمن القومي العربي في الخليج واستهداف لدولتي الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية الشقيقتين بعمليات تخريبية وتحرشات استفزازية فيما تتجلى وسط مد التوترات وتهديد حرية وسلامة طرق التجارة والنقل البحري "سياسات حافة الهاوية بين ايران والولايات المتحدة" وهو مشهد له انعكاساته السلبية على القضية الفلسطينية.
ولا ريب أن قرع طبول الحرب في المشهد الملتبس بين طهران وواشنطن يشد الأنظار بعيدا عن القضية الفلسطينية ويبعدها عن موقعها المركزي في بؤرة الاهتمام ، ومع ذلك فإن أحدا لا يمكنه ان يتجاهل وجع شعب بأكمله حتى في المنابر والدوريات الثقافية الأمريكية.
وها هي مجلة "نيويورك ريفيو" الأمريكية ذات المستوى الثقافي الرفيع تنشر تحقيقا صحفيا للكاتبة باتيا اونجار-سارجون تتبدى فيه أطياف واسئلة الهوية الفلسطينية ومعاناة شعب تحت الاحتلال ونير التنكيل والسجون كسجن عوفر الذي تحدثت عنه هذه الكاتبة التي عرفت بكتاباتها المعمقة في صحف ومجلات أمريكية شهيرة كنيويورك تايمز وواشنطن بوست وفورين بوليسي.
وكنموذج سلمي مقاوم للتمسك بالأرض والهوية والتصدي للاستيطان تسرد باتيا اونجار-سارجون قصة فلسطيني من الخليل يدعى عيسى عمرو فيما تتناول إمكانات المقاومة السلمية الفلسطينية في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي على غرار النموذج التاريخي الهندي الذي قدمه المهاتما غاندي كقائد لشعبه في مواجهة الاحتلال البريطاني حتى نالت الهند استقلالها قبل عام واحد من النكبة الفلسطينية عام 1948.
والنكبة تشكل علامة فارقة في الثقافة الفلسطينية وحاضرة دوما في الدراسات الثقافية لمثقفين فلسطينيين مثل الباحثة والمحاضرة الأكاديمية مرام مصاروة في دراسة نشرتها مجلة الدراسات الفلسطينية في عددها الأخير بعنوان :"سكان المكان واحفاد الزمان:التغاير والتحول في هوية اللاجئين الفلسطينيين من النكبة الى ما بعد أوسلو" وهي دراسة تتناول المتغيرات الطارئة في الهوية الوطنية للاجئين الفلسطينيين وتستخدم "منهج التحليل الثقافي الذي يقوم على دراسة المحيط للظواهر الاجتماعية والسياسية".
والنكبة كحدث خطير في التاريخ الفلسطيني والعربي ككل كانت لها تداعياتها واسئلتها المتصلة بالهوية مثل سؤال مرام مصاروة في دراستها بهذه المجلة الفصلية التي تصدر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية:"من نحن الفلسطينيون؟" وبالقدر ذاته فإن هذا الحدث أثار رد فعل فلسطيني تمثل في "حلم العودة والحفاظ على الهوية الفلسطينية في الشتات".
وتقول مرام مصاروة في دراستها إن "الهوية الوطنية الفلسطينية تميزت بسمات خاصة اكتسبتها تراكميا ولاسيما بعد نكبة 1948 فيما شكل الإحساس الجمعي بمرارة النفي والسعي نحو تحقيق اهداف الشعب الفلسطيني وحق تقرير المصير الملمح الأساسي المكون للهوية الوطنية".
وظهرت "صدمة الطرد" كما تضيف مصاروة "في خضم عملية بلورة هوية وطنية وتعمقت على مر الأعوام مع تعاقب الكوارث التي أصابت الشعب الفلسطيني وواقع الاحتلال اليومي المستمر" موضحة ان "عملية النفي جعلت الفلسطيني يبحث عن عناصر هويته سواء تحدثنا عن نفي جغرافي وإقصاء عن ارض الوطن ام نفي سيكولوجي واقصاء شعوري".
فالنكبة أوجدت الحاجة لبناء جديد للسرد الوطني الفلسطيني "ارتكازا على تجربة صادمة وصعبة لفقدان الوطن والمنزل" وادت الى "بناء ذاكرة جماعية وطنية شكلت بديلا للوطن المفقود بقدر ما جعلت سؤال الهوية مركبا ووضعته على المحك بصورة مستمرة".
وهكذا ترى مرام مصاروة مثل كثير من المثقفين الفلسطينيين ان "الواقع السياسي والإنساني يجبر الفلسطيني على العودة الى سؤال الهوية باستمرار لأن عملية النفي مرتبطة ارتباطا شديدا بوضع الفلسطيني الذي فقد الأرض واصبح خارج الحقوق الإنسانية".
وتستعير هذه الباحثة والمحاضرة الأكاديمية مقولة المثقف والأكاديمي الفلسطيني إبراهيم أبو لغد الذي قضى في رام الله يوم الثالث والعشرين من مايو عام 2001 :"عندما تعجز الأرض تحت ظروف القهر والاحتلال والاغتصاب عن أداء مهمتها كوعاء للوطن يحتضن آثاره وقيمه ويشهد على هويته وتاريخه يتلقف المواطن هذه المهمة ويصبح هو الوعاء الحاضن الشاهد وتصبح الذاكرة بديل الأرض وما من قوة قادرة على قهر الذاكرة او دحر الوجدان ".
واذا كانت الذاكرة بطبعها عدوا للقهر فقد فعلت فعلها الإيجابي في المجتمع الفلسطيني المتعدد الأجيال بشرائحه المتنوعة وعملت على تجسيد الوعي الذاتي الفلسطيني والرواية التاريخية الجماعية كحاضنة للتصورات والممارسات التي شكلت الهوية الوطنية الفلسطينية.
وتلاحظ مرام مصاروة ان هناك مرحلتين تعاقبتا على الذاكرة الفلسطينية بعد النكبة: "مرحلة الذاكرة الحسية التي تشكلت لدى الجيل الأول الذي عايش النكبة بجميع تبعاتها بينما امتازت الذاكرة عند الجيل الثاني الذي لم يعايش النكبة بأنها ذاكرة لغوية بامتياز تعتمد على ما سرده الجيل الأول.
وإذا كان المثقف الفلسطيني الأصل والأكاديمي اللامع والناقد الراحل ادوارد سعيد قد تحدث ضمن طروحاته التي عرفتها المنابر الثقافية في الولايات المتحدة والغرب ككل عن "زمن المنفى" فيما طرح الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش السؤال الموجع:"من انا من دون منفى؟" فان مرام مصاروة تتحدث عن "النسيج الثقافي الذي شكل الذات الفردية والجمعية الفلسطينية" وتصف بأن النكبة وحالة النفي "بالصدع الذي يصعب شفاؤه في كينونة الهوية الوطنية الفلسطينية".
وتلك العلاقة الشائكة بين المنفى والهوية طورها مثقف عربي يحمل في اعماقه الجرح الفلسطيني وهو الكاتب والروائي اللبناني الياس خوري في روايتي "باب الشمس" و"أولاد الغيتو" فيما يبقى حلم العودة في بؤرة الذاكرة الجمعية الفلسطينية كما يصبح الماضي مهما كان اليما بحجم وعمق الم النكبة مصدرا للوعي الوطني ودعامة للهوية الفلسطينية.
وإذ تحل اليوم الذكرى ال71 للنكبة يقول مثقف فلسطيني كبير هو الكاتب والناقد الثقافي فيصل دراج ان الشعب الفلسطيني "تمايز" عن غيره من الشعوب بمأساة كارثة حرمته أرضه وسارت معه عقودا متلاحقة نقلته من منفى الى اخر فيما "استولدت المأساة ذاكرة جريحة توارثها الأحفاد عن الأجداد وترجمت ذاتها كتابة بالشعر او برواية تعطف المنفى على الكارثة وتتسلح بتفاؤل يستعجل عودة الوطن الذي كان".
تلك رؤية يطرحها فيصل دراج في سياق تناول نقدي "لرباعية البحيرة" وهو عمل روائي للكاتب الفلسطيني يحيى يخلف الذي حصد في شهر ابريل الماضي "جائزة ملتقى القاهرة للرواية العربية" كما شغل من قبل منصب وزير الثقافة في السلطة الوطنية الفلسطينية.
وقضايا الهوية ووجع النكبة حاضرة في "رباعية البحيرة" كعمل روائي رحيب مكون من أربعة أجزاء وسط اتفاق عام بين المثقفين الفلسطينيين على ان التمسك بالهوية هو الذي يجعل القضية الفلسطينية عصية على الانطفاء فيما يقول فيصل دراج ان الروائي يحيى يخلف يعالج في هذا العمل الروائي "موضوعا عاش تفصيلاته وعرفه مكانا ووجعا وزمانا".
وهذه الرباعية للروائي الفلسطيني يحيى يخلف تشكل بالفعل اسهاما ثقافيا جديدا في "بناء الذاكرة الجمعية الفلسطينية" بقدر ما تنبض بالحنين للوطن المفقود وتقدم إجابة ضمن إجابات لاسئلة الهوية الفلسطينية عندما تقرر:"يتعرف المغلوب الى هويته حين يعرف من اين جاء".
وتلك إجابة مهمة ففي ازمنة المسار الفلسطيني التي ترد الى ماض معلوم ومخيم محترق ومستقبل مجهول-كما يقول الناقد فيصل دراج-ما يوحي بهويات فلسطينية متعددة "ويحرم الهوية الفلسطينية من سعادة البداهة" فيما يقيم الروائي يحيى يخلف "بين الهوية والذاكرة رباطا مقدسا" بعد ان أطاحت النكبة منذ 71 عاما "بأصحاب الهوية خارجا وتركت لهم صفة غير مسبوقة بالنسبة لهم: اللاجئين بينما تسرد الرباعية مأساة الانتقال من فضاء قرية فلسطينية آمنة ومتوارثة العادات الى مخيم يواجه اللاجئين بما لا يعرفونه".
ورغم ثقل السنين ووجع النكبة وتداعياتها ، فان الثقافة الفلسطينية تبدو مدركة لأهمية اسئلة المستقبل كما ان المثقفين الفلسطينيين لم يتخلوا عن تفاؤلهم التاريخي وهو ما يتبدى في كلمات لكاتب الفلسطيني الشاب غسان نداف ذهب فيها الى ان الانشغال باسئلة المستقبل يأتي في صلب دور الأدب والفن.
ومن قبل وفى كتاب صدر بالانجليزية بعنوان :"يوميات الاحتلال"-طرح المؤلف الفلسطينى رجاء شحادة رؤيته الغاضبة والآسيانة والمتفائلة معا لحال وطنه فى مواجهة الاحتلال الاسرائيلى حيث المستعمرات اليهودية تتخلل ثنايا المشهد فى الضفة الغربية والطرق الالتفافية تفصل الفلسطينيين عن أراضيهم.
وقدم رجاء شحادة فى هذا الكتاب الذى يغطى بيومياته الفترة من عام 2009 وحتى عام 2011 رؤية تجمع مابين الغضب والجمال ليحق وصف هذا الكاتب بأنه "رجل غاضب ومع ذلك فهو تأملى النزعة يكتب ببساطة وجمال رائعين".
ورجاء شحادة تتناول أيضا فى كتاب سابق صدر بالانجليزية بعنوان :"مشاوير فلسطينية" وحصل به على جائزة "اورويل" البريطانية لأفضل كتاب سياسى فى عام 2008 دور الغرب فى مساعدة اسرائيل على تحدى قرارات الأمم المتحدة فيما يرى "ان كل مايقيمه الاحتلال الى زوال يوما ما كما زال كل احتلال من قبل فى التاريخ".
والتاريخ الفلسطيني جذب مثقفين في الغرب مثل جاري فيلدز صاحب كتاب :"حيز مغلق :مشاهد فلسطينية في مرآة تاريخية" والحيز المغلق كما يعني جاري فيلدز وهو أستاذ جامعي امريكي متخصص في الاقتصاد وأنظمة العمل المقارنة هي الممارسات الناجمة عن انتقال حيازة الأرض من مجموعة الى مجموعة أخرى ومايسميه بتأسيس اطار استثنائي في مشهد إقليمي.
وفيما كان هذا المصطلح يعني عمليا وعلى الأرض مجموعة من السياسات الاحتلالية البريطانية التي أفضت لتمكين الحركة الصهيونية من الأرض الفلسطينية فان هذا الكتاب وهو من إصدارات جامعة كاليفورنيا حظي بتناول نقدي وتعليقات في الصحافة الثقافية الغربية ويتضمن سردا قانونيا وتاريخيا للممارسات البريطانية التي أدت لتمكين عناصر الاستيطان من أراضي الفلسطينيين.
وفي سياق تناول نقدي لهذا الكتاب يقول المحامي والكاتب الفلسطيني رجا شحادة ان العودة لتفاصيل ما حدث في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين وقراءة الأحداث بموضوعية تكشف عن حقيقة ان الكثير من ملاك الأراضي في فلسطين رفضوا بيعها ولم يستجيبوا لإغراءات مالية كبيرة حينئذ.
كما يتصدي هذا المثقف الفلسطيني وصاحب الحضور الواضح في الصحافة الثقافية الغربية "للنزعة الهوليوودية" او نزعة البعض في الغرب لعقد مقارنات بين الفلسطينيين والهنود الحمر بعد اكتشاف أمريكا ، موضحا الاختلاف الكبير في السياقات التاريخية والثقافية والاجتماعية بين الجانبين ومعيدا للأذهان مقولة الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات :"الفلسطينيون ليسوا الهنود الحمر" ولن يخرجوا من التاريخ.
71 عاما تمضي على النكبة ومازال الشعب الفلسطيني يتمسك بهويته كدرع يحمي الشعب والقضية من السقوط في بئر النسيان..نعم 71 عاما ولم ولن تسقط القضية او يتحول الحق المشروع الى سراب في ارض تتوق للسلام العادل وزهر اللوز.