الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

خمسائة عام من العزلة


في القرن الثامن الميلادى وتحديدًا فى الفترة ما بين زوال ملك دولة الأمويين وبداية ملك دولة العباسيين حذر الجاحظ ومفكرو المعتزلة العقليون من فكرة القومية و خطرها على الوحدة التى تحققت تحت راية العرب ، كان اللفظ السائد وقتها (الشعوبية) الذى يقابل لفظ القومية فى اللغة المعاصرة ، كانت الشعوبية مضرة كبيرة بالوحدة الكبري للشعوب التى نجحت فى الانصهار والانضواء والاتحاد تحت ثقافة واحدة، على مساحة عريضة متصلة من شرق الأرض إلى مغربها، وكأن الخلفاء العرب قد نجحوا بالفعل فيما فشلت فيه كل إمبراطوريات العالم خاصة فى القضية الأهم وتخطت التحدى الأكبر الذى يواجه كل غاز أو مستعمر فى كل عصر و هو نشر الثقافة التى يحملها على كل متر من الأرض تصل إليها حوافر الخيل الغازية.

فعلى سبيل المثال استطاع الإسكندر غزو العالم عسكريا فى 3 سنوات و ترك خلفه الثقافة الهيلينية التى بقيت لعقود تؤثر فى الشرق وثقافته ، لكنها لم تستطع أن توحد العالم الشرقي سياسيا كما فعلت الثقافة العربية الجديدة بعد أن بلورها الدين الإسلامي حيث بلغت في تأثيرها درجة لم يعد فيها اتحاد المسلمين ولحمته مرتهنا أو مشروطًا بمن يحكم أو من سيحكم، فالوحدة كانت قائمة ومتجذرة على مستوى الشعوب وكانت لقرون توالت ، أقوى من أى عرق أو قبيلة و هو ما يمكن وصفه حديثا بالمجتمع الحضاري الكبير..

ظهرت تعريفات كلمة مجتمع في القرن الخامس عشر، لتؤكد أن امتلاك ثقافة مشتركة هى إحدى السمات الرئيسيّة المميّزة للمجتمع المتجانس ، وفقًا لما ذكره عالِم الاجتماع (ريتشارد جنكينز).

هناك عدد من القضايا التي يعالجها مصطلح المجتمع : وتتمثل فى كيفيّة تفكير الناس وماهيّة الطرق التي يتبادلون بها المعلومات فيما بينهم وماهيّة الظروف والقيم المشتركة التي تتحكّم في سلوك الفرد ومعاملاته.

فى القرن الثامن عشر صدَّر الغرب للشرق أفكارا حديثة من بينها قيم القومية والاستقلال وما عرف قديما بالشعوبية، ونجحوا فى ذلك التصدير بسبب سلوك الاتراك البراجماتي العنصري الدموى الذى لا يعبر عن القيم الأصيلة للإسلام الحنيف و عن طريق الفرنسيين الذين استعان بهم محمد علي فى نهضته وعن طريق الإنجليز فى البصرة و عن طريق الإرساليات التبشيرية الأوروبية فى لبنان ، و لذلك كانت القومية حلًا وحيدًا للتخلص من الخلافة المنحرفة و التى لم تعد راشدة والتى تحولت إلى احتلال صريح غاصب للأمم ولأقوات شعوبها باسم الدين، ومما زاد من الحاجة إلى الفكر القومى فى حينها أن الأتراك لم يسعوا أى سعي لنقل ما وصلت إليه أوربا من علم وتطور وثورة صناعية إلى الدول الخاضعة لها علاوة على فشلها فى الدفاع عنهم من الغزاة الاوربيين وهذا يعود إلى أنهم بكل سلاطينهم المعاصرين للثورة الصناعية فى أوروبا لم يهتموا بعلوم واكتشافات الغرب كما فعل الخلفاء العباسيين بعلوم الهند واليونان، لكنهم اهتموا فقط بالتطبيقات العسكرية وشراء الأسلحة الاوروبية الحديثة لإخضاع الشعوب الواقعة تحت سلطانها .. 

فى القرن الثامن عشر بدأت أمم القارة الامريكية تدريجيا فى التبلور تحت اتحاد فيدرالي يحترم (بتصرف) الاختلاف الثقافي والتعددية والقومية المحلية على مبادئ فلاسفة أوروبا ( جون لوك و توماس هوبز و إدوارد كوك، والفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو)   حيث آمن هؤلاء المفكرون فى العموم بأن قبول الأفراد بالالتزام السياسي تجاه المجتمع هو أساس المصلحة الذاتية والمنطق، وأدركوا تمامًا مزايا مجتمع مدني تكون لأفراده حقوق وواجبات وهو ما صنع "اتحاد غربي جديد" تحت ثقافة واحدة ..

فى أواخر القرن العشرين نجح الأوروبيون فى التوقيع على معاهدة ماستريخت إيذانا بالتغلب على الفكر القومى وبدأوا فعلا فى رسم حدود جديدة لأوروبا تحت راية اليورو و المصالح المشتركة فأصبحت دول أوروبا متحدة متغلبة على تحديات العرق و الجغرافيا و اللغة والنزاعات التاريخية وبحور الدماء بين شعوبها، بعد أن استقر الغرب بشقيه الأمريكى والأوروبي على جانبي الاطلنطى على مبادئ الاتحاد ، بدأوا من جديد فى نهاية القرن العشرين ومطلع القرن الواحد والعشرين فى تصدير فكر العولمة إلى الشرق عن طريق السماوات المفتوحة والفضائيات و التواصل الاجتماعى عبر شبكة المعلومات الدولية ( إنترنت ) وهو فكر مضاد تمام لفكر القومية الذى صدروه لنا من قبل فى مطلع القرن الثامن عشر فأصبح مهما جدا أن يستعيد الشرق فكر الخلافة إلى الاذهان وهى الفكرة الأقرب لعولمة البلدان والأسرع للقضاء على الدولة القومية.

وبالطبع لم يكن الغرض توحيد المسلمين ثقافيا ولكن بغرض خلق حالة صراع دام كتلك التى حدثت بين القوميين والمتعصبين لفكرة الخلافة فى تركيا وخارجها بنهاية القرن التاسع عشر.. وبالطبع ستجد حرس الليبرالية المتوحشة والعولمة يمولون جميع الاطراف المتحاربة بسياسة الاحتواء المزدوج المعروفة للوصول إلى تسريح الحكومات وإفساح الطريق أمام رغبتهم المحمومة فى السيطرة على كل شبر فى العالم و هذا ما يفسر تغير مواقفهم من النقيض إلى النقيض تبعا لكل حالة لإنتاج فراغ السياسي فى ظل غياب ثقافة موحدة لبلدان الشرق خاصة بعد أن حلت المذهبية والعرقية والطائفية محل الدين الواحد ، كل هذا وما زال المسلمون يطلقون على دولهم لفظ دول اسلامية !! 

فى الواقع لا توجد دول إسلامية وأخرى مسيحية أو بوذية ، بل توجد دول فقط وبلاد تسكنها أغلبية مسلمة وأخرى بأغلبية مسيحية أو أغلبية بوذية أو ملحدة ، فالدولة بنظرة مجردة ما هي إلا نظام سياسي إدارى ونظام الإدارة علم موحد متفق عليه عالميا ولا علاقة له بدين الشعوب ، وهذا ما تنبه له الأوروبيون فخلعوا راية الدين من دواوينهم واكتفوا بتقديم أنفسهم تحت راية المدنية والحداثة وكذلك حذا حذوهم الأفارقة والآسيويون و هو ما غفل عنه العرب والمسلمون فى كل بقاع الأرض وهذه الغفلة هى ما تفسر تمسكنا بوصف دولنا بأنها دول إسلامية ، فنحن على سبيل المثال لا ندري الفرق بين الإدارة المصرية باعتبارها دولة مسلمة والإدارة الفرنسية أو الهندية أو الصينية و لا ما هو انعكاس وصف دولنا بأنها اسلامية على سياساتنا الداخلية أو الخارجية ولا على قوانيننا ؟ الحقيقة لا أرى فى تقديم أنفسنا للعالم تحت راية الدين إلا ردة وتخلفا لا يهدف إلا لعزلنا مرة أُخرى عن بقية العالم وتطوره لتكرار ما حدث للعرب والمسلمين فى الشرق على يد الاتراك منذ مطلع القرن السادس عشر وطيلة مائتي عام من العزلة.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط