الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

عبد الرحمن يعقوب (أبو مازن) يكتب: في الذكرى الخامسة.. جوانب التفرد عند أبي همام

صدى البلد







أوعر المسالك
نذر أبو همام نفسه للدفاع عن فن الشعر كما يراه، وكما يعتقده، فالشعر في نظره فن له قواعد لا قيود كما يزعم الزاعمون، وعلى الشاعر المتمكن أن يلعب في هذه القواعد وفي الضرورات التي أبيحت له، فيما لا يخالف القاعدة( )، ونتيجة لذلك أقحم نفسه في محاولتين من أشد المحاولات صعوبة والتي قد تواجه أي شاعر، ليدلل على صدق دعواه، وقد عاد منهما مكللًا بالظفر، وتلك المحاولات تجلت في اثنتين:
المحاولة الأولى اللزوميات: وهي من أشد فنون الشعر صعوبة على الشعراء؛ «وهذه الظاهرة تتعلق بالقافية، وهي أن يلتزم الشاعر بحرف أو أكثر قبل حروف الروي، ولا تحتم قواعد القافية مثل هذا الالتزام، وإنما هو تكلُّف يعمد إليه الشاعر أحيانًا لإظهار مقدرته اللغوية فهو بذلك يضيف باختياره إلى الالتزام بحرف الروي – وهو ما تلزم به قواعد التقفية في الشعر العربي التقليدي- قيدًا أو قيودًا أخرى، والشائع في هذه الظاهرة أن يلتزم الشاعر المستخدم لها بحرف قبل حرف الروي، وقد يلتزم بأكثر من ذلك»( ) وقد أظهر فيها أبو همام أصول الفن الشعري لدعاة التحلل من الأوزان والقوافي، وهو متأثر فيها بأبي العلاء المعري؛ «حيث ظلت هذه الظاهرة نادرة الوقوع في الشعر العربي إلى أن أتى أبو العلاء (ت499هـ-1057م) فأفرد لها ديوانًا كاملًا سماه (لزوم ما لا يلزم)»( ) ومن صور اللزوميات لدى أبي همام التزامه لحرف السين قبل حرف النون في قصيدة (أمنية)، إذ يقول:

لَا تُشْعِلِي القَلْبَ، إنَّمَـا انْطَفَأَتْ //رِغَابُهُ حِينَ ضَمَّهَا الوَسَنُ
أو تُوقِظِي الرِّيحَ إنَّـهَا خَـمَدَتْ //وَرَدَّهَا عَنْ جـِمَـاحِهَا أَسَنُ
أحْسَبُنِي لَا الـخِدَاعُ يَبْسَمُ لـي //وَلَا يَرَانِي جَذْبُهُ رَسَنُ
وَبِتُّ لَا يَنْبِضُ الفُؤَادُ وَلَا //يَـهُزُّه مَنْطِقٌ وَلَا لَسَنُ
لَكِنَّنِي قَدْ نَسِيتُ مَا اعتَقَدتْ //نَـفْـسِي، إذْ لَاحَ وَجْهُكِ الـحَـسَنُ

وقد لا يكتفي شاعرنا بالتزام حرف واحد قبل الروي فيزيد حرفًا آخر كما صنع في قصيدته (الشعر)، وهي تنضح بما تنطوي عليه نفسه من الاعتداد الشديد بالنفس الشاعرة، حتى إننا نراه يعلق في حاشية الصفحة لافتًا إلى أنه التزم فيها حرف الراء قبل (الواو) لأنه يرى أن التزام الردف لا يكفي، فيقول:

عَزِيز الـمَـدَى، حَسْبي مِنَ الشِّعْر أَنَّنِي //أُؤَدِّي بِهِ لِلْنَّفْسِ كُلَّ فُرُوضِ
يُتَابِعُنِي فِيه العَرُوضُ سَــمَـاحَـةً //وَلَـمْ أَكُ يَـومًـا تَـابِـعًـا لـعـروض
قَوَافيَّ، قَدْ أَخْفَيتُ مِنِّي جَهَادَةً //فَإِن تـَجْمَحِي، عِنْدَ (اللزُومِ) تَرُوضِي



المحاولة الثانية: ديوان مقام المنسرح، التزم فيه الشاعر بحرًا واحدًا هو المنسرح، على أن هناك كمًّا كبيرً جدًّا من القصائد على بحر المنسرح وهي غير مدرجة في هذا الديوان، والمنسرح من البحور التي كادت تندثر لقلة استخدام الشعراء لها حتى عند الأقدمين، ويأتي البحر على وزن:
مستفعلن مفعولات مستعلن // مستفعلن مفعولات مستعلن
وتكمن صعوبة البحر في التفعيلة الثانية؛ إذ إن الوزن لا يستقيم إلا إذا وقفت في هذه التفعيلة (مفعولاتُ) على متحرك، ومن أطرف ما وجدت لأبي همام في الديوان عن تحديه لهذا البحر العصي قوله:

مستفعلن مفعولاتُ مستعلن //أهذه الـ(مفعولات) تحتجب؟!
فلتغضبي مفعولاتُ وارتقبي //صولة وادٍ ترد ما غصبوا
أنَّى لك أيتها التفعيلة المتوترة أن تحتجبي على شاعر فحل كأبي همام؟ وهي تجربة فريدة أن يخرج شاعر ديوانًا كاملًا على بحر واحد، خاصة إذا كان من أوعر أنواع البحور مركبًا.

التراث في حياة أبي همام:
يوغل أبو همام في التراث إلى أبعد الحدود، ويكفيني في هذا المقام أن أستعرض بعض ما أخذه الشاعر من التراث العربي..
مع القرآن:

حفظ أبو همام القرآن الكريم في التاسعة من عمره، فتخامرت روحه مع كتاب الله عز وجل، وبدا ذلك جليًّا في شعره، من ذلك رسالته للشاعر أحمد عبد المعطي حجازي التي يقول فيها:

تبيت للحرف بالوصيد ولا // تـلـقـاه إلا والـنــار مشتـعـلـة
ولعلي لم أقرأ لشاعر من شعراء العصر الحديث قد وظَّف تلك الكلمة القرآنية مثل هذا التوظيف إلا عند أبي همام، ثم يقول في موضع آخر:
وصاحبي في الوصيد مثلي لا يرضى ولاذت بالصمت جلسته
إلى أن يقول:
وبات خوستو في الأفق أغنية // تحوم عند الوصيد طلعته

وكلمة الوصيد هي لفظة قرآنية، وردت ، في قوله تعالى عن أصحاب الكهف: (وتحسبهم أيقاظًا وهم رقود، ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد) [سورة الكهف آية18] وأزعم أنه لم يرد استعمالها في غير القرآن الكريم إلا عند أبي همام، والله أعلم. 
وقوله:

يفتلون الريح إذا أعطوا رضوا وإن رُدوا تولوا حرْبا
وهو في ذلك متأثر بقول الله تبارك وتعالى في خطابه عن حال المنافقين (ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون) [سورة التوبة، آية58]

والشك -يا ويح للشك- مارج من عذاب
متأثر بقول الحق تبارك وتعالى (وخلق الجان من مارج من نار) سورة الرحمن آية 15

أو فَالْقُطِ القَلْبَ َطائِرًا نَزِقًا وَاسْلُكْ شِعَابًا طَرَائِقًا قِدَدَا
متأثر بقول الله عز وجل (وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا) سورة الجن الآية 11
تَسُرُّنَا إنْ تَعَاظَمَ الخَطْبُ إذَا صَبْرنَا وَلَاتَ مُصْطَبـَـرُ
لفظة ولات لفظة قرآنية وهي شحيحة الاستخدام في الكلام العادي، أما في الشعر فإن لها ظلالًا تبين جوانب من عظمتها، وهو متأثر في ذلك بقول الله عز وجل (كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص) سورة ص آية 3
أَطَلَّتَا مِنْ هُنَاكَ فَانْبَجَسَتْ مِنِّي صُخُورٌ يَهُزُّهَا مَيْدُ

في القصص القرآني عن موسى متأثر بقول الله عز وجل، (فانبجست منه اثنتا عشرة عينا، قد علم كل أناس مشربهم) سورة الأعراف الآية 160
وَيَقْرَأُ آيَةَ الْكُرْسِي يَرْجُو خَيْرَ بَارِيهِ

شَقِيقَةَ الـمَوْجِ سَفِينِي غَارِقٌ فِي اللجَجِ
فَيَا سَمَـاءُ أقلِعِي وَيَا غُيُومُ انْفَرِجِ



وفي لمحة خاطفة تخامرت روح أبي همام مع أحد شعراء العربية وهو قريط بن أنيف، وجدير بالذكر أن هذا الشاعر قد صَدَّر أبو تـمـام ديوان حماسته بقصيدته الوحيدة التي لم يقل غيرها: والتي مطلعها:
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
إلى أن يقول:

لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد //ليسوا من الـشر في شيء وإن هانا

يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة // ومن إساءة أهل السوء إحسانا

وهو البيت الذي نسج أبو همام على منواله فقال:
وأين قومي وأين نجدتهم ليسوا بشيء، وإن همو كثروا
وقد ألهمت تجربة محمود شاكر في (القوس العذراء) مع الشماخ بن ضرار، في قصيدته (القوس) شاعرنا أبا همام والذي أنشأ قصيدة بالعنوان نفسه يقول فيها:
أنا حفيد الشماخ أهداني الـ//قوس وروحي بالقوس متصلة

أروز تلك الأقواس يحملني//مدارها، لست أنتحي بدله

إلى أن يقول: 
مَا بَالُنَا صَاحِبِي قَدِ انْتَثَرَتْ//مِنَّا الأَوَاخِي وَأَكْثَرَ الْعَذَلَهْ

وَبِيعَ قَوْسُ الشَّمَّـاخِ وَانْفَرَدَ//الْأغْتَمُ يَـهْـذِي، وَأَفْصَحَ الفَسَلَهْ

كما تأثر الشاعر بشعراء كثر لا يتسع المقام لذكر كل شاعر على حدة، ولكن نذكر من بينهم: المعري وابن الرومي وذا الرمة، ومحمود شاكر، وعلي الجارم وأحمد شوقي وآخرين على أنني وقعت على صورة أتى بها الشاعر أبو همام، يقول فيها: 
تَبـْـكِي السَّوَاقِي قَدْ شَاخَ حَارِسُهَا

وَفَارَقَتْهُ الْوِلْدَانُ وَالْأُهُبُ

والموضع الآخر:
سـاقـية تـئــن فـي قـفــر الـمـســاء مُـبــْكــِيــَــهْ
وكان أحمد شوقي هو أول من أتى بـهذه الصورة التشبيهية، إلا أن هناك من أخذ على شوقي صورته، يقول شوقي، في قصيدة (الربيع ووادي النيل):
وَجَرَتْ سَوَاقٍ كَالنَّوَادِبِ فِي الْقُرَى// رُعْنَ الشَّجِيَّ بِأَنَّةٍ وَنَوَاحِ

الشَّـاكِيـاتِ وَمَا عَرَفْنَ صَبَابَةً//البَاكِيَاتِ بِمَدْمَعٍ سَحَّاحِ

والنقد الذي وُجه لتلك الصورة جاء عبر قراءة ضافية للقصيدة برمتها، أوضحت ما تفرد فيه أحمد شوقي بالاستباق إلى صور مولَّدة حديثة منها المقبول الجيد ومنها ما رفضته القراءة، ويصنع أحمد شوقي في قصيدته مفارقة عجيبة إذ إن موضوعها عن الربيع ووادي النيل إلا أنها تنحو منحى آخر في ثنايا القصيدة، وذلك أن (نغمة الموت والحزن بعد ذلك جاء في صورتين أخريين، أولاهما صورة (السواقي) التي تدفع الماء إلى الأرض الهامدة فتحيا به، وتهتز بعد موات، كما يقول القرآن الكريم (وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت) إلا أن شوقي لم يلتفت إلى هذا الجانب من عمل السواقي، وإنما التفت إلى جانب آخر يتجاوب مع نغمة الحزن وينميها، إذ راح يصور ما يصدر عن السواقي في أثناء دورانها بصوت لسيدات أو (النوادب) اللواتي يبكين الموتى في الريف، وكانت تلك عادة من العادات المنتشرة في الزمن الماضي حتى عصر شوقي وما بعده بسنوات، فلم يقفز إلى وعيه إزاء مشهد السواقي التي تجري بالماء في الربيع إيذانًا بدورة جديدة للحياة إلا صورة البكاء والنواح والموتى) ( ).
ثم يتابع قائلًا: (ومن الغريب أنه ارتكب متن الشطط في هذا التشبيه وتوهمه توهمًا ومع ذلك مضى في رصد علاقة التناظر بين طرفيه، فالماء الذي تسكبه السواقي يشبه الدموع المنهمرة من عيون النوادب، وما أبعد الفرق بين الأمرين! أجل كلاهما من جنس الماء إلا أن الأول أكسير الحياة والآخر دموع الحزن والألم والشبه بينهما ظاهري مضلل..)( ) .
لا تخطئ عين القارئ البصير ولع أبي همام بالتراث؛ إذ يأتي بيت لذي الرمة بمثابة الخاتم الذي يُطبع على الكتاب، فآخر بيت في أعمال أبي همام الشعرية هو بيت مضمَّن لذي الرمة يقول فيه:
(كأن القوم عُشُّوا لحم ضأن فهم نَعِجون قد مالت طُلاهم)

أبو همام والنقد
لقد اشتهر أبو همام شاعرًا أكثر منه ناقدًا، على أن الأخيرة هذه له فيها يد طولى، وإسهامات متفردة، وشهادة واحدة من شاعر كبير مثل فاروق شوشة تؤكد هذا؛ حيث يقول: «لكنَّ أبا همام ـ المتكئ إلى ثقافة تراثية عريقة‏,‏ وثقافة أندلسية وإسبانية منفتحة‏,‏ والذي تشغله الدراسة الأكاديمية والترجمة والبحوث النقدية وتلتهم كثيرًا من وقته الذي لا يتبقى منه للشعر إلا أقل القليل ـ عذره أنه رأى من هوان الشعر وابتذاله وخلوِّه من حقيقته ومعناه‏,‏ ما لم يرَه العقاد في حياته التي توقفت في عام‏1964.‏ من هنا‏,‏ فإن شهادة الدكتور عبد اللطيف عبد الحليم تنصب في جوهرها على ما حدث للشعر بعد رحيل العقاد حتي الآن‏:‏ من خلخلة للمصطلح‏,‏ وافتقاد للصيغة والمعمار‏,‏ وفقدان للموسيقيى,‏ وإلغاز في العبارة والدلالة‏,‏ تحت عناوين براقة من التجديد والتجريب والانسلاخ والتجاوز وارتياد الآفاق الجديدة واستكشاف عالم الجسد‏؛‏ لذا‏,‏ فهي شهادة أكثر قسوة وحِدَّة من كل ما كتبه العقاد‏,‏ وأبعد رفضًا لكل صور الشعرية الجديدة وتجلِّياتها ـ كما يردد نقاد هذا الزمان ـ باستمرار‏»( ).‏
ويؤكد الدكتور والشاعر محمد عناني هذه النظرة النقدية قائلًا عن أبي همام:
عينه عين الباز إن لمحت // نقيصة لـم يفته ما لـمـحـا

وختامًا أورِد كلماتٍ لي ودَّعت بها أستاذي الشاعر إلى مثواه الأخير، أقول فيها( ):


قــِـفَـا رُوَيْدًا هُــنَا بِسـَاحَتِهِ//نَبْـكِـي شَـرِيـفًا لِـفَـقْدِهِ أَلـَمُ

لَو أَفْصَح الشِّعْرُ عَنْ مُصِيبَتِهِ//رَثَـاهُ، وَالـجُرْحُ لَيْــسَ يَلْـتَـئِمُ

وَا حَـْسرَتا! مَا أَقُولُ في نَـبَأٍ//تَــكَــادُ مـِـنْــهُ الـجـِبَـالُ تَــنْقَسِمُ

فَارَقْتَنَا وَالـفُــؤادُ فـِي كَـمَــدٍ//مِـنْ حَــاضِرٍ لَا يَـرْقَى بِـهِ كَلِمُ

عُذْرًا أَبَا هـــَمَّـامٍ فَأُمَّتُنَا//عُهُودُهَا بِالْــخِـذْلَانِ تَتَّسِمُ

يَا دَرْعميًّا قَــدْ كُنْتَ مُعْــتَلِـيًا//عـَرْشَ القَوافـِي، قَــدْ أَبْدَعَ القَلَمُ

وَا غَوثَ قَـلْبِي إذ بَاتَ يَشْغَلُهُ//جُرْحٌ سَحِيقٌ سِيقَتْ لَهُ الظُّلَمُ

مِنْ فَقْدِ شَادٍ مَا عَادَ يَصْدَحُنَا//صَوتٌ عليهِ الطُّلَّابُ تَزْدَحِمُ

غَصَّت حُلوقٌ مِنْ هَوْلِ نَـكْـبَـتـِهَـا//فَلَسْتُ أَدْرِي هَلْ طَالـهَا السَّأَمُ؟!

سَالَتْ مَآقٍ عَلَيهِ