الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

في ذكرى رحيله.. كيف ساهم رفاعة الطهطاوي في تحقيق نهضة فكرية لمصر

صدى البلد

تميز الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي أحد أعلام التنوير في مصر، والذي تحل اليوم ذكرى رحيله، بميزات شخصية متعددة، ونظر إلى الجديد بعين أصيلة لم تتنكر لذاتها، ولم تبدأ من الصفر، وتمكن من أن يحقق من الجديد ظلالًا مختلفة لمجتمعه من خلال التأمل والنقد والإعجاب والترجيح والتدبر والتعلم والمفاضلة والتوطين والتمكين والتطوير، وفي أحيان قليلة الرفض والاستعلاء المبررين.

كان رفاعة الطهطاوي في كل أطوار حياته معلمًا ومربيًا بالفطرة والسليقة، بدأ حياته شيخًا يتحلق حوله طلبة الأزهر، وأنهى حياته معلمًا للأمة، ولا يرى سبيلا لتقدمها إلا بالعلم يتاح لكل الناس لا فرق فيه بين غني وفقير أو ذكر وأنثى، وبذل من نفسه ما بذل من جهد لتحقيق هذا الغرض، ووضع الكتب والمؤلفات التي تعين على ذلك. 

ولد الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي في محافظة سوهاج، في 15 من أكتوبر 1801، ونشأ نشأة عادية في بيت أبوين فقيرين، وتلقى تعليمًا دينيًا بدأه في الكتاب حيث درس ما كان متاحا من العلم على نحو ما كان يتلقاه طلبة العلم في عصره، ثم التحق بالأزهر وانتظم في دراسته وتخرج فيه، وفي الأزهر أتيح له أن يعرف أستاذه الأعظم الشيخ حسن العطار، الذي كان أبرز الشيوخ الذين تلقى العلم عليهم، وهو الذي وجهه إلى طريق التجديد والاجتهاد في طلب ودراسة العلوم غير التقليدية، وغير المألوفة لدى الأزهريين في ذلك العهد.

واختلف رفاعة الطهطاوي، عن غيره من طلاب الأزهر، بالعديد  من المميزات الإيجابية، لذلك السبب استطاعت أن يتصل الثقافة والنهضة الغربية، وسافر خارج مصر لأول مرة سنة 1826م إلى فرنسا ضمن بعثة عددها أربعين طالبًا أرسلها محمد علي، على متن السفينة الحربية الفرنسية "لاترويت"، لدراسة اللغات والعلوم الأوروبية الحديثة، وكان عمره حينها 24 عامًا.

كان الشيخ حسن العطار وراء ترشيح رفاعة للسفر مع البعثة كإمام لها وواعظ لطلابها، وكان بينهم 18 فقط من المتحدثين بالعربية، بينما كان 
البقية يتحدثون التركية، وذهب بصفته إمامًا للبعثة ولكنه إلى جانب كونه إمام الجيش اجتهد ودرس اللغة الفرنسية هناك وبدأ بممارسة علم، وبعد خمس سنوات حافلة أدى رفاعة امتحان الترجمة، وقدم مخطوطة كتابه الذي نال بعد ذلك شهرة واسعة تخليص الإبريز في تلخيص باريز، وأصبح رمزا لكل ما هو حقيقي في النهضة، كما بقي بعيدا عن كل ما هو زائف من مظهريات التقليد أو الاصطناع الحضاري.

وعاد رفاعة لمصر سنة 1831 مفعمًا بالأمل منكبًا على العمل فاشتغل بالترجمة في مدرسة الطب، ثُم عمل على تطوير مناهج الدراسة في العلوم الطبيعية، وأفتتح سنة  1835م مدرسة الترجمة، التي صارت فيما بعد مدرسة الألسن وعيـن مديرًا لها إلى جانب عمله مدرسًا بها، وفي هذه الفترة تجلى المشروع الثقافى الكبير لرفاعة الطهطاوي ووضع الأساس لحركة النهضة التي صارت في يومنا هذا، بعد عشرات السنين إشكالًا نصوغه ونختلف حوله يسمى الأصالة أم المعاصرة كان رفاعة أصيلًا ومعاصرًا من دون إشكال ولا اختلاف، ففى الوقت الذي ترجم فيه متون الفلسفة والتاريخ الغربي ونصوص العلم الأوروبى المتقدم نراه يبدأ في جمع الآثار المصرية القديمة ويستصدر أمرًا لصيانتها ومنعها من التهريب والضياع.

وظل جهد رفاعة يتنامى بين ترجمةً وتخطيطًا وإشرافًا على التعليم والصحافة، فأنشأ أقسامًا متخصصة لترجمة "الرياضيات - الطبيعيات – الإنسانيات"، وأنشأ مدرسة المحاسبة لدراسة الاقتصاد ومدرسة الإدارة لدراسة العلوم السياسية، ومع تولِّى الخديوى عباس حكم مصر، فقد أغلق مدرسة الألسن وأوقف أعمال الترجمة وقصر توزيع الوقائع على كبار رجال الدولة من الأتراك، ونفى رفاعة إلى السودان سنة 1850م

وتسبب ذلك في عبس وجه الثقافة، وعوق رفاعة عن مشروعه النهضوى الكبير، بيد أن رفاعة لم يعبس ولم يعاق، فواصل المشروع في منفاه، فترجم هناك مسرحية تليماك لـ "فرانسوا فنلون"، وجاهد للرجوع إلى الوطن وهو الأمر الذي تيسر بعد موت الخديوى عباس وولاية سعيد باشا، وكانت أربعة أعوام من النفى قد مرت، وعاد رفاعة بأنشط مما كان، فأنشأ مكاتب محو الأمية لنشر العلم بين الناس وعاود عمله في الترجمة "المعاصرة" ودفع مطبعة بولاق لنشر أمهات كتب التراث العربي "الأصالة".

وقضى رفاعة فترة حافلة أخرى من العمل الجامع بين الأصالة والمعاصرة حتى انتكس سعيد فأغلق المدارس وفصل رفاعة عن عمله سنة 1861، وعاود رفاعة العمل وقضى العقد الأخير من عمره الحافل في نشاط مفعم بالأمل، فيشرف مرة أخرى وأخيرة على مكاتب التعليم، ويرأس إدارة الترجمة، ويصدر أول مجلة ثقافية في تاريخنا روضة المدارس.

وسعى رفاعة الطهطاوي إلى إنجاز أول مشروع لإحياء التراث العربي الإسلامي، ونجح في إقناع الحكومة بطبع عدة كتب من عيون التراث العربي على نفقتها، مثل تفسير القرآن للفخر الرازي المعروف بمفاتيح الغيب، ومعاهد التنصيص على شواهد التلخيص في البلاغة، وخزانة الأدب للبغدادي، ومقامات الحريري، وغير ذلك من الكتب التي كانت نادرة الوجود في ذلك الوقت، غير أن هذا النشاط الدءوب تعرض للتوقف سنة  1861م، وخرج رفاعة من الخدمة، وألغيت مدرسة أركان الحرب، وظل عاطلًا عن العمل حتى تولى الخديوي إسماعيل الحكم سنة 1863م، فعاد رفاعة إلى ما كان عليه من عمل ونشاط على الرغم من تقدمه في السن، واقتحم مجالات التربية والتعليم بروح وثابة يحاول أن يأخذ بيد أمته إلى مدارج الرقي والتقدم، فأشرف على تدريس اللغة العربية بالمدارس، واختيار مدرسيها وتوجيههم، والكتب الدراسية المقررة، ورئاسة كثير من لجان امتحانات المدارس الأجنبية والمصرية.

ويُعد الطهطاوي أحد رواد الفكر التنويرى في مصر بعد فترة من الاضمحلال الفكرى والتي عاشتها مصر والتي وصلت لذروات من الجمود الفكرى بشكل خاص في العصور المملوكية والعثمانية في مصر، مما أثر سلبا وبقوة على الفكر في مصر مما ترك أثر سلبيا جدا على الحياة الفكرية في مصر إبان السيطرة المملوكية والعثمانية على مصر، وكان لاتصاله بالفكر المستنير أثر بالغ الأهمية في التواصل العلمي والفكري بين مصر وبين الفكر والعلم في الكثير من الدول في العالم وحركة الترجمة فيما بعد.

وابتكر الطهطاوي لنفسه دورا آخر في الحياة العلمية والفكرية في مصر فيما بعد والتي تمثلت في انشاء مدرسة الألسن، والتفاعل مع الفكر المتطور المتنامى في فرنسا اجتماعيا وخاصة فيما بعد الثورة الفرنسية وما حملته من افكار الدولة المدنية الحديثة والقائمة على المشاركة المجتمعية والشعبية في الإدارة والحكم، وهي أحد ابرز اسهامات المفكر جان جاك روسو والمعروفة بنظرية العقد الاجتماعي وغيره من المفكرين الذين كان لهم الإسهامات الكبيرة في الفكر الذي قامت عليه الدول الحديثة في العالم، وكان للطهطاوي دور في الإسهام في النهضة الفكرية التي عاشتها مصر في عهد محمد علي باشا والذي يعتبره البعض باني مصر الحديثة، فقد كان الطهطاوي من أهم الدعائم الفكرية التي قامت عليها النهضة التي ارادها محمد علي باشا في مصر، فدور الطهطاوي في حركة الترجمة وانشاء مدرسة الألسن كان له الأثر الهام في نمو التطوير العلمي والثقافي مصر من خلال الاطلاع على ما وصلت اليه العلوم والثقافات المختلفة.