الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

دليل كفر فرج فودة!


فكان من المحتم أن يربط الناس بين اغتيال الدكتور فرج فودة وبين المناظرة الشهيرة التى شهدها معرض القاهرة الدولى للكتاب في أرض المعارض بمدينة نصر قبل واقعة اغتياله بستة أشهر، كذلك مناظرة أخرى كانت في مقر نقابة المهندسين بالإسكندرية، لكن بدون الدخول في تفاصيل حول ارتباط ما ورد في آراء الدكتور فرج في المناظرتين وبين اغتياله ذلك ليكن السؤال الآن:
ــ لماذا فرج فودة هو الذي وقع عليه الاختيار وحده ليقتلوه؟!


فلقد كان معه في كلا المناظرتين، الدكتور فؤاد زكريا، أستاذ الفلسفة، والدكتور محمد خلف الله، المفكر اليسارى، وبحكم السن وبحكم التخصص وبحكم الخلفية الفكرية وبحكم الدراسة الأكاديمية، كان فرج فودة هو أقلهم رسوخا وأحدثهم عهدا في مواجهة الفكر الأصولي الإسلامي.


وأما الدكتور فؤاد زكريا، فقد كنت أعرف هذا الاسم جيدا حتى قبل التحاقى بقسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة عين شمس الذي كان يرأسه قبل سفره إلى الكلية إلى الكويت بعدة سنوات، لكنه كان حاضرا بالاسم والتأثير والتلاميذ وقبل أن نقرأ له أو عنه سمعنا عن اتجاهاته العلمانية واستغراقه في التغريب وتفضيل النموذج الغربي عقلا وشكلا ومنهجا، وكنت أعرف ذلك من خلال بعض كتبه التى وقعت تحت يدي ولم يكن لدى أي موقف تجاه منهجه وتفكيره وقد قرأت مرارا كتابه الشهير "التفكير العلمي" ولكن لا أنكر عدم ارتياحي بسبب إقراره مفهوما محددا للعلم ومنطلقا أحاديا للتفكير مع اعترافي بالفارق الشاسع بينه كأستاذ وبيني كمجرد طالب فلسفة ولكن أول ما تعلمناه من الفلسفة، أننا نضع الرهبة جانبا عندما نلج لمناقشة الأفكار- لذلك كان نتاج فكر فؤاد زكريا أشد وطأة من فرج فودة ولكن الجانب الأكاديمى في طرح الأفكار وعدم نزول زكريا لمعترك العمل العام – سياسيا وإعلاميا- جعله بشبه منأى عن نيران الجماعات الإسلامية بمختلف توجهاتها رغم أنه صك مصطلحا معاديا لهم "العلمانية هي الحل" كمضاد لشعار "الإسلام هو الحل" الذي هبطت به جماعة الإخوان على الشارع المصري بعد تحالفها مع حزب العمل وسيطرتها على مقاليد الأمور فيه وتخندقت تحت شعاره جميع تيارات الإسلام السياسي.


مع ذلك لم يفكر أحد في الاقتراب من فؤاد زكريا، وتفسيري لذلك أنه على رسوخ قدمه أكاديميا وفكريا إلا أنه ليس له تأثير يذكر على الشارع العام والذي يشكل ساحة الصراع الحقيقي لهذه الاتجاهات، فهذه الجماعات لا تهتم بفكر مضاد ولا حتى مؤيد لها إلا بمقدار تأثيره سلبا أو إيجابا على الجماهير وانتشاره بينها.


ينطبق الوصف نفسه على الدكتور محمد أحمد خلف الله الذي صاحب فودة في المناظرة الأولى وهو رغم دخوله معترك العمل السياسي كأحد مؤسسي حزب التجمع ورغم خصومته مع التيارات الأصولية، إلا أن دراساته الأكاديمية وممارساته الفكرية طغت على عمله السياسي والجماهيري الذي لم يجاوز دائرة الأفكار والتنظير، لذا لم تجد فيه الجماعات خطرا يثير قلقها وقد كان الدكتور خلف الله كما سبق أن ذكرت في المقالات السابقة، صاحب توليفة خاصة بين الإسلام واليسار أو بصراحة بين الإسلام والماركسية وهي توليفة اعتدنا وجودها على الساحة الفكرية العربية عقب انتشار الماركسية في مصر.


فكان لخلف الله الماركسي رؤية إسلامية خاصة أثارت في بدايتها جدلا كبيرا ولكنها لم تكد تجاوز مدرجات الجامعة الذي نوقشت فيه أطروحته لنيل رسالة الدكتوراه تحت عنوان "الفن القصصى فى القرآن الكريم" عام 1947 تحت إشراف مفكر إسلامي شهير وهو الشيخ أمين الخولي، وكان موضوع رسالة الدكتوراه الخاصة به في غاية الخطورة أو اعتبره بعض أعضاء لجنة المناقشة كذلك، فقد كانت الفكرة تدو حول القصص القرآنى كنصوص أدبية لا يشترط أن تكون وقعت بالفعل.


ولكن رغم حدوث مناوشات حول الرسالة من الجمعيات الأصولية التقليدية وعلى رأسها جماعة الإخوان التى طلبت منه التوبة والندم وإعادة عقد قرانه على زوجته مرة أخرى في حال زواجه، لأنه كان في حكم المرتد! إلا أن الموضوع لم يأخذ زوبعة كبرى مثلما حدث مع كتاب معركة الشعر الجاهلى لطه حسين ولا كتاب الإسلام وأصول الحكم للشيخ على عبد الرازق وأقر ساعتها خلف الله بأنه مستعد أن يتبرأ من الرسالة لو ثبت أنها مخالفة للقرآن لأنه كتبها من رؤية شرعية خاصة واكتفت الجامعة برفض الرسالة ومعاقبة مشرفها ومقدمها إداريا.


 ورغم المطالبة بالتحقيق في الأمر ومحاولة تصعيده، إلا أنه لم يحدث في الأوساط الإعلامية والثقافية دويا يذكر بجانب ما حدث لسابقه برغم ما كان للدكتور خلف الله من أنشطة كبيرة على المستويات الأكاديمية والثقافية، حيث شغل مناصب قيادية كرئيس لقسم اللغة العربية بكلية آداب الإسكندرية وبعدها عميدا لها.


هذ باختصار لمحة عابرة عن شريكي فودة في المناظرة، ولكن لا يذكر أحد عن مناظرات التيارين المتضادين بمسمياتهما المختلفة ما بين تنوير وعلمانية وتحررية ضد أصولية وسلفية ومحافظة، إلا فرج فودة وحده وما أحدثته ردوده ودفاعاته عن نفسه وهجومه على الفكر الذي يمثله الطرف المضاد، فمع سبق وعلو كعب مرافقيه في فريقه، إلا أنه هو الذي جذب الجمهور لعدة أسباب منها بساطة تناوله ووضوح أفكاره وبعدها عن التعقيدات الأكاديمية والبحثية والتى اتسم بها أسلوب المرافقين، كذلك تلقائيته وفكاهته، أنه الوحيد الذي كما أنه الوحيد الذي جوبه باتهام صريح بالكفر من جانبهم مع إحداثهم ضجة حوله! لا ليس بالكفر فقط.. بل بالخيانة!


الخيانة؟! الخيانة؟!


نعم الخيانة.. فقد وجه الدكتور عمارة اتهاما شنيعا له بأنه وصف شهداء الجيوش العربية في حروب إسرائيل بالقتلى، بينما أسبغ على قتلى إسرائيل صفة الشهداء!


وهذا لعمرك اتهام لو ثبت ضد فودة لتغاضت كل التيارات السياسية والثقافية عنه ولو قاموا بإحراقه حيا كما خططوا فيما بعد، لكن فودة رفض الاتهام على رؤوس الأشهاد وطالب الدكتور محمد عمارة بإثبات ورود هذا الكلام عنه بل تحداه أن يثبت ذلك!


وحتى الآن لا أدرى ما الذي جعل الدكتور عمارة، وهو الباحث المحقق المدقق الذي لا يشق له غبار، يفعل هذا، فما كان له أن يردد اتهاما بمثل هذه الشناعة التى يدرك هو نفسه مدى بشاعتها لو ثبتت ضده.


فربما كان البعض يتغاضون عن تهمة الكفر لأنه في النهاية حر في اعتناق ما يعتقد وقد يهتدى يوما، لكن شبهة الخيانة لن تجد من يراوغ دفاعا فيها، فسيلفظه الجميع لاجتماعهم على كراهية إسرائيل على مختلف انتماءاتهم.


وإن كان عمارة قد سخر من خصمه زاعما عليه أنه يأتى بمعلوماته من قصص كتاب ألف ليلة وليلة فهو الذي سخر من فودة بذلك (وليس الشيخ الغزالى كما ورد التباسا في أول مقال) فترى؟! من أي قصة خيالية أتى عمارة باتهامه، لقد دافع فوده عن نفسه وعن عقيدته وأعلن أنه يقبل بمبادئ الشريعة الإسلامية ولا مجال للتشكيك في إيمانه كمسلم وتحدى أمام الجميع أن يثبت الدكتور عمارة هذا الاتهام المنكر.


وتعال هنا.. مهما كان موقفك من فودة وآرائه، ما رأيك في هذا الاتهام؟!


لكن السؤال الأجدر والأكثر واقعية هو: ماذا تقول في إقدام دكتور محمد عمارة على توجيه مثل هذا الاتهام وهو يدرك تماما مدى بشاعته، كما يدرك أنه اتهام لا دليل عليه؟!


رحماك يا رب هل يفعل العناد مثل هذا مع الرجال؟!


وحتى وفاته لم يستطع عمارة إثبات هذه "الفرية" التى أذاعها والتى من فرط تهافتها وثبوت بطلانها لم يرد لها ذكر إلا في تسجيل تلك المناظرة التى احتشدت لها الجماهير في مقر نقابة المهندسين بالإسكندرية!


لكن التعصب عامة والديني منه خاصة، يدفع الناس للافتراء وتكثيف النيران بأى شكل ضد الخصم، لكسب الصراع فالمناظرة بدت كمعركة فاصلة لابد من كسبها.


وأثبت فودة براءته بتحدى إثبات هذه الفرية وقال بلهجة هادئة رزينة لكنها مفعمة بالألم وتستطيع سماعها في مقطع الفيديو المسجلة عليه، بأنه لا يمكن أن يذكر ما ادعاه صديقه الدكتور محمد عمارة بأنه قال "قتلانا قتلى.. وقتلى إسرائيل شهداء"، خاصة أن شقيقه الشهيد "محيي الدين على فودة" سقط شهيدا في نكسة 5 يونيو 1967، وقرر الدكتور فرج في رده على فرية عمارة باللهجة نفسها، أنه سيعتزل الكتابة والخطابة لو صدر منه هذا بأي شكل ليريح ويستريح.


وخرج فرج فودة منتصرا بسبب خطأ خصمه، لكن لم تكن هذه هي المعركة الفاصلة، فقد تقرر في أمر دبر بليل، أن يسكت فرج فودة إلى الأبد.


واليوم 3 يونيو يكون قد مر على حادث اغتياله 28 سنة إلا ستة أيام، كذلك 53 سنة إلا يومين على استشهاد شقيقه على أرض سيناء التى تواجه الآن بالدم والرصاص ما واجهه فرج فودة بالكلمة والفكرة.

المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط