الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

هُموم «الأسرة» في فيلم «صاحب المقام»!


 "الليل أقبل والوجود سكونه، في الليل راحت تستريح جفونه"  .. لستُ من مجاذيب أضرحة أولياء الله الصالحين، المُداومين على زيارتها، المُتمسحين بحرير ستائرها، اللائذين بنور بركتها، ولكن حين أقصد إحدى هذه الأضرحة أو المقامات، أجدني أحني غروري انكسارًا، وأغمض عيني خشية، واستشعر ذات السكون النفسي الذي اجتاح روحي، حين دلفتُ من باب الحرم المكي لأول مرة صيف ٢٠١١ ورأيتُ الكعبة المُشرفة أمامي، هو شعور لايمكن تفسيره، حيث يتخفف قلبك من همومه وأحزانه، فتشُعرُ أنك غدوت أخف من الريشة، تستطيع أن تُحلق وتطير، وتسموُ فوق كُل الصغائر.

مُنذُ الإعلان عن عرض فيلم "صاحب المقام" على إحدى منصات المُشاهدة الإلكترونية، وأنا أتحينُ الفرصة للحظات هُدوء أقتنصها لمشاهدة هذا العمل الفني الصادم، الذي أثار عاصفة من اللغط منذ اللحظة الأولى، ووجهت إلى صناعه سهام نقد ثلاث: دينية، وفكرية، وفنية، حيث طالتهم اتهامات تروج لكون "صاحب المقام" مسروقًا من فيلم إسرائيلي يدعى "مكتوب"، وأخرى تطعن في التكوين الفني للعمل، وثالثة تتهمهم بالإلحاد للترويج لكرامات الأولياء وأفضال زيارة قبورهم وطلب العون منهم، وهو ما تصمه جماعات دينية متشددة بـ "الشرك بالله"، ولكني استمتعت بالفيلم وكنت أرجو أن أراه على شاشة السينما الضخمة، لتتكامل عناصر الإثارة والإبهار، وتحقق غاية الاستمتاع.
 
لست أصنف نفسي ناقدًا فنيًا، لذا سأرجئ رأيى المتواضع في العمل من هذه الناحية حتى نهاية هذا المقال، ولكن باعتباري كاتبًا يهوى التعمق في سيكولوجيا المجتمع وطبائع البشر، أجدني مشدودًا إلى خيط رفيع يصل بين شخصيتين ضمن شخوص الفيلم، لروعة نقاط الشبه التي تربط بينهما، وهما "يحيى" الشخصية المحورية، التي جسدها النجم آسر ياسين، والثانية والد الطفلة "هاجر"، الذي أدى دوره الفنان محمود عبد المغنى، فالرابط بين الشخصيتين كبير، يجسد مأساة الطباع السيئة لبعض الأزواج في هذه الآونة، والتي تفرض تأثيراتها السلبية على الأسرة والمجتمع، ولعل أخطرها نسب الطلاق المرتفعة، وتشرد الأطفال، وكم القضايا التي تنظرها محاكم الأسرة كل يوم.

ويكفي أن نسلط الضوء على أرقام تقارير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، والتي تم الإفصاح عنها مؤخرًا ضمن مبادرة "مودة" التي أطلقتها وزارة التضامن الإجتماعي للحفاظ على ما تبقى من كيان الأسرة المصرية، وتشير الأرقام إلى أن مصر تسجل 198 ألف حالة طلاق سنويًا، 38% من حالات الطلاق لم يكملوا 3 سنوات، و 15% لم تدم زيجتهم أكثر من سنة واحدة، ويقدر عدد المطلقات بأكثر من 6 ملايين مطلقة، مع تشريد حوالي  7 ملايين طفل، بالإضافة إلى نحو 250 ألف حالة خلع سنويًا.

"عيني لغير جمالكم لا تنظر، وسواكم في خاطري لا يقطر"

بالتركيز على الشخصية الأولى "يحيى" فهو زوج أناني، مغرور، مُهتم بعمله وحياته ومزاجه الشخصي، لا تحتل الجوانب الإنسانية والعواطف حيزًا يُذكر في تعاملاته، سواء مع أقرب الناس له زوجته وابنه الوحيد، أو مع موظفي الشركة التي يديرها، فلا أحد يحبه، وهو لايكترث لهذا الأمر، وكل ما يشغل باله هو استمرار عمله بنجاح وتزايد ثروته حتى وان "داس على كل شئ"، وهذا الغرور يظهره الفيلم بوضوح مع تمايل الشخصية طربًا على وقع موال عراقي يشدو : "لا تشبه نفسك بالناس، إنتا وضعك مختلف"، وهذا الغرور يصطدم بقوة مع أزمة انسانية كبيرة، تغير من روح "يحيى" جذريًا، وتدفعه نحو طريق الصواب، وإعادة التوازن بين متطلباته ورغباته، وتجعله يدرك أن الخير في أن يكون خيره للناس وليس له وحده، فهي صدمة عنيفة دفعت نحو "الإفاقة"، ونمط "يحيى" مُنتشر بين الأزواج، فهم لايباهون إلا بأنفسهم ولا يدركون أن حياتهم لابد أن تتغير بعد الزواج فقد أصبحوا مسئولين عن أشخاص آخرين، يجب أن يكون لهم نصيبهم من وقتهم واهتمامهم، وهو عيب في التربية على الأغلب يدفع ثمنه الزوجات والأبناء. 

الشخصية الثانية هي والد الطفلة "هاجر"، التي توفيت إثر مرض صدري لم يلق الرعاية اللازمة، وهذا الشخص مُدمن، عاطل، يقتات من رزق زوجته التي تعمل بالخدمة في البيوت في الوقت الذي لايحرك فيه ساكنًا يدخن ويتعاطى المخدر وينام، وهذا النموذج موجود في مجتمعاتنا بكل أسف، وأكاد أعرف في دائرتي الشخصية عدة حالات هم أزواج لسيدات فضليات نلجأ لهم للمساعدة في أعمال المنزل، وهن يعشن واقعًا مرًا بغياب الزوج رغم كونه على قيد الحياة، فهو ميت فعليًا، وجوده كعدمه، والغريب أن تلك السيدات لايفكرن في إبعاده عن حياتهن، رغم كونه بلا طائل أو فائدة، وذلك يرجع إلى أمرين، الأول نظرية المثل الشعبي: "ظل راجل ولا ظل حيطة"، والثانية الخوف من رد فعله الذي سيكون عدوانيًا وغير محسوبًا نتيجة الإدمان، فهو في نهاية الأمر لايملك قوت يومه، والزوجة هي مصدر القوت والرزق والمال الذي يجلب به المخدر.  

كلا الشخصين "يحيى" و "أبو هاجر" يعيشان في غيبوبة، تحت سيطرة مخدر ما، الأول مُغيب تحت تأثير غروره وأنانيته المفرطة التي تعزله عن جميع من حوله، وتفرض جدارًا من الكراهية مع الجميع، والثاني ساقط في دائرة الإدمان، الذي يفصله عن الواقع ومسئولياته، ويختار للهروب أن يغيب عن الوعي، وهو أسوأ انواع الهروب على الإطلاق.

مشهدان هزليان ضمن أحداث فيلم "صاحب المقام" يكشفان بوضوح الصلة التي تربط بين الشخصيتين، ومدى الغيبوبة التي يعيشان بها مع اختلاف درجة الإنفصال عن الواقع، مشهد "يحيى" وهو يجيب على سؤال الطبيب حول السنة الدراسية التي بها نجله "ياسين"، حيث أجاب "grade 4" ليصحح له الطفل المعلومة بأنه في " Grade 6"، والكثير من الآباء لايعلم شيئًا عن أبناءه ويتنصل من المسئولية كاملة لحساب الأم، والمشهد الثاني، لـ "أبو هاجر" الذي ركب مع زوجته السيارة وفوجئ بطفل يركب معهم، فسأل زوجته عن هوية هذا الطفل، لتجيب ببساطة "دا ابنك يا راجل"، وهو المشهد الذي جسده الفنان محمود عبد المغني ببراعة يحسد عليها. 
 
وأخيرًا.. فعلى الجانب الفني، فإن فيلم "صاحب المقام" متكامل فنيًا، ولكن حرص إبراهيم عيسى على طرح المعتقدات التي يعتنقها فيما يتعلق بأفضال أولياء الله الصالحين والدفاع عنها، طغى في أحيان كثيرة على سير الخط الدرامي بصورة بعثت أحيانًا بشعور الملل لدى المشاهد مع تكرار زيارة الشخصية المحورية لأضرحة الأولياء، ليبدو الفيلم في بعض كادراته وكأنه فيلم وثائقي يؤرخ لهذه المساجد الأثرية القديمة التي تضم أضرحة ومقامات الصالحين، وليس قصة إنسانية تعكس أفكار الكاتب من خلال الدراما، ليظل "عيسى" الأكثر جرأة حاليًا في طرح القضايا التي يؤمن بها، وهي جرأة يحسد عليها الكاتب الصحفي الكبير، وتضيف إلى رصيده الكثير من الإحترام والتقدير لقلمه ورؤيته.

كما أن النجوم اللامعة الكثيرة من الفنانين الكبار الذي ظهروا في مشاهد صغيرة على مدار الفيلم فصنعوا البصمة والتأثير، كان لهم دور كبير في ترقب المشاهد كل مشهد قادم، بشغف وحيرة يضيف الكثير من المتعة في المشاهدة، وكان للموسيقى التصويرية دور كبير في معايشة الأحداث المتلاحقة والمتصاعدة، لاسيما الإعتماد على أبيات من قصائد صوفية مرتبطة بطقوس زيارة أضرحة الأولياء، ليدفعك انبعاثها إلى الرغبة في النهوض والتمايل خشوعًا على وقع لحنها الرخيم، لتبقى الرؤية الإخراجية الأكثر ابداعًا والتي تستحق العلامة الكاملة، من حيث تنوع الكادرات وثرائها حيث تختطف المشاهد وتأسر روحه، وهو يبرز تلك الأماكن الروحانية بروعة لا توصف، وبواقعية تُشعرك وكأنك زُرت ولبيت نداء أهل البيت، فتغمض عينيك لتستمع إلى المنشد يشدو: الحمد لله الذي أنار الوجود بطلعة شمس البرية سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام".
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط