الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

محمد سيد ياسين


اقترن اسم "ياسين" بصناعة الزجاج باعتباره رائدا لهذه الصناعة التى بدأها فى مطلع الثلاثينات من القرن الماضى، ولكنه قبل دخوله هذا المجال كان أول من أدخل فكرة "النقل العام" إلى شوارع القاهرة.


ولد محمد سيد ياسين عام 1886 م بحى بولاق، وكان والده مقاولا كبيرا حصل على عملية تكسية جسور النيل ويدير رفاصات لنقل المحاصيل الزراعية والركاب بالمراكب الشراعية فورث عن أبيه ذلك، كما ورث ديونا كبيرة تعدت 30 ألف جنيه، ويعد مبلغا كبيرا فى ذلك الوقت، وكانت كلها "دين شرف"، فكانت ضمانات لأصدقاء صهينوا عن السداد، فما كان على الابن إلا أن يجتهد ويعمل ويتحمل المسئولية.   


محمد سيد ياسين أول من أدخل فكرة النقل العام إلى مصر، باختراعه سيارات أتوبيس تجوب شوارع القاهرة، وجاءته الفكرة، بعد وصوله إلى محطة السكة الحديد قادما من الإسكندرية عام 1921 م، فكانت الشوارع قد تحولت إلى كتل طينية بسبب الأمطار، وكان الترام متوقفا بسبب إضراب للعمال فاستأجر حنطور وطلب منه السائق سبعة أضعاف الأجرة المقررة، ومن هنا فكر فى تحويل سيارتى اللورى اللذين يملكهما لوسيلة نقل للركاب مثل الترام.


وسبب امتلاكة للسيارتين اللورى، بعد الحرب العالمية الأولى حصل ياسين على عطاء من الجيش الإنجليزى  لتصنيع المنتجات الجلدية، فأنشأ ورشة لصناعة الأحزمة والألشين للجنود والضباط، والسروج لخيولهم، ولظروف الحرب توقف استيراد الجلود، وبالتالى توقف عمله، ولأنه كان ملتزما بعمله، عرض عليه المسئول عن المهمات فى الجيش الإنجليزى أن يختار ما يشاء من مخلفات الجيش قبل بيعها فى المزاد، وبالفعل اشترى سيد ياسين عشر هياكل لسيارات نقل خردة مقابل 10 جنيهات لكل شاسيه.


بعد واقعة الحنطور، خطرت لسيد ياسين فكرة تصنيع سيارات لنقل الركاب فى الشوارع، مثل الترام فاستعان باثنين من النجارين وركب معهم الترام وطلب منهم أن يصنعا فوق هياكل سيارات النقل "دكك خشبية" بمساند للجلوس عليها كما فى الترام وتحولت سيارات اللورى إلى أتوبيسات مفتوحة من الجانبين، ويتم الصعود إليها بواسطة سلم ثم أضاف إليها جوانب من الصفيح، وبذلك يكون سيد ياسين أول من أنشأ اتوبيس لنقل الركاب دون أن يراه من قبل!


نجحت الفكرة رغم إحجام الناس عنها فى البداية خوفا من سرعة الأتوبيس، وكانت لا تتعدى 20 كيلومترا فى الساعة فهى تختلف بالطبع عن عربيات الكارو أو الحنطور، ولكن بعد مرور 45 يوما على التجربة اعتاد الناس على وسيلة النقل الجديدة، فازداد عدد الأتوبيسات حتى بلغت 100 أتوبيس عام 1932 م، وحقق المشروع أرباحا كبيرة ، مما جعل الحكومة تعرض عليه فكرة إنشاء شركة مع أجانب على أن يتولى الإدارة، ولكنه رفض وزادت الضغوط عليه، مما أدى إلى أن تقصر الحكومة منح تراخيص الأتوبيس على شركات أجنبية، وترفض منحة الترخيص! 


لهذا السبب خاض ياسين حربا مع الحكومة حتى يستمر المشروع ولكن المشروع توقف! وعرضت عليه الحكومة أن يتنازل عن الأتوبيسات ويبقى مشرفا على المشروع، لكنه رفض. 


وقرر ياسين مقاضاة الحكومة، ونصحه محاموه بأن يختار بين أن يحصل على تعويض يصل إلى 150 ألف جنيه ولكن بعد عشر سنوات بعد انتهاء القضية، وبين أن يحصل على تعويض فورى قيمته ستة عشر آلاف جنيه ففضل ياسين التعويض الفورى.

                   
اعتبر سيد ياسين مبلغ التعويض الذى حصل عليه من الحكومة نواة لمشروع جديد على أن يحقق النفع العام، وليس الغرض منه تحقيق أرباح ووقع اختياره على "صناعة الزجاج"، فعلى الرغم من أنها صناعة قديمة منذ قدماء المصريين ونقلها عنهم الفرس ثم الرومان وانتشرت فى مصر بعد الفتح الإسلامى، حيث استخدمت المصابيح فى الجوامع والشوارع، إلا أن الاحتلال الإنجليزى قضى على أى جهود لقيام صناعات مصرية، ومما يدل على ذلك التقرير الذى أرسله إلى لندن اللورد كرومر، المندوب السامى البريطانى، قائلا بفخر: "اختفت الصناعة الوطنية فى الأسواق ولم يعد موجودا إلا السلع الأجنبية"، لذلك قرر سيد ياسين أن يخوض التجربة مستفيدا من خبراته وتجاربه السابقة.


فكانت البداية بإنشاء مصنع زجاج لمبات الجاز وكانت مطلبا ضروريا للمصريين خاصة فى الريف، وظل لمدة ثلاث سنوات يتكبد خسائر كبيرة بسبب قلة الإنتاج، وتلف الخامات، وجهل العمال بالصنعة، ولكن بدعم وتشجيع  الاقتصادى العظيم طلعت حرب تم تطوير هذه الصناعة، فقد تقدم ياسين بطلب الحصول على سلفة قيمتها 80 ألف جنيه من بنك مصر، ولكن إدارة البنك رفضت طلبه، إلى أن علم طلعت حرب فوافق على السلفة وقام بنفسه بمراقبة المشروع ومتابعته وتشجيعه.


من هنا انطلق محمد سيد ياسين لتنفيذ مشروعه الضخم فأنشأ أول مصنع للزجاج المسطح فى الشرق الأوسط، وقام بزيارة مصانع الزجاج فى ألمانيا واستعان بمدربين وخبراء من التشيك ليبنى مصنعا جديدا بأحدث تقنيات صناعة الزجاج فى العالم، ويتطور المصنع ويفى باحتياجات مصر فى مرحلة البناء والتعمير بعد الحرب العالمية الثانية، ونجح المصنع فى إنتاج أول زجاجة كوكاكولا عام 1946م لينتهى تماما استيراد زجاجات المياه الغازية الفارغة من الخارج.


توسع ياسين فى مشروعاته الصناعية فأنشأ شركة القاهرة لإنتاج المعادن وشركة مصر للأعمال الهندسية والنقل إلى جانب تطوير صناعة الزجاج إلى أن أطلق عليه "ملك الزجاج فى مصر"، وكمثله من رجال الصناعة  والأعمال فى تلك الفترة تم تأميم شركاته عام 1961م وبعد عشر سنوات توفى محمد سيد ياسين عام 1971م.


وصفه الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين قائلا: "أحد زعماء الوطنية الاقتصادية فى مصر، وبعد التأميم كانوا يصرفون له راتبا شهريا لا يكفى ثمن علاجه!".

 
وكتب عنه الكاتب الكبير مصطفى أمين سنة 1957م: أن شخصيته تتميز بالجدية والالتزام وتحمل المسئولية، وتجنب كل ما يثير الشبهات، فقد عاش حياته شريفا ملتزما محبا للعمل الجاد المخلص، متوافقا مع نفسه، حريصا على العطاء بلا حدود، مترفعا عن الناس الأعذار أو تبرير ما لا يرضاه الضمير الحى.   
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط