الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

د. هادي التونسي يكتب: سيجموند فرويد.. عالما وعلامة

صدى البلد

من منا لم يسمع عن سيجموند فرويد ! ذلك العلامة الذائع الصيت الذي بدأ بدراسة طب الأعصاب، و أصبح بثقافته الموسوعية مفكرا حرا ثم،وبعد اخفاقه احيانا في تنويم حالات تعاني من الهستيريا لكشف دوافعها اللاشعورية المكبوتة بلا تفكير و مواجهتها تحت إشراف الطبيب،  مؤسسا لعلم و مدرسة التحليل النفسي و علم النفس الحديث، و لممارساته السريرية عن طريق الحوار مع المريض النفسي او بالتداعي الحر باطلاق العنان لإسترسال الأفكار ، فحدثنا عن الدفاع عن آليات القمع المسببة للأمراض العصابية، و عن أثر الرغبة و الغريزة الجنسية في دوافع و نفسية الفرد، و عن  تفسير الأحلام كمصدر للنظرة الثاقبة الي رغبات اللاوعي.

نتيجة لشعوره بالصدمة و الفراغ و الانعزال عن ماضيه بعد وفاة والده عام ١٨٩٦ بدأ في تحليل نفسه و مخاوفه و أحلامه،و رأي فرويد أن الشخصية هي محصلة تفاعل بين ثلاثة أنظمه هي " الهُوَ" و " ألأنا" و " ألأنا العليا"؛ و أن الهو أو النفس المشتهية هي طبيعتنا الأساسية البيولوچية التي لم يهذبها التعلم أو الحضارة، وهي مكون افتراضي، يحتوي على الغرائز الحيوانية لدى الإنسان، والتي تشكل رغبتنا الجامحة، وهي تتطلب الإشباع فوريا دون الاعتبار لقواعد أو معايير. والمبدأ الذي يحكمها هو اللذة و السعي لاكتسابها بممارسات جسدية و نفسية سهلة. ويستمد الهو طاقته من الاحتياجات البدنية مثل نقص الطعام أو الجنس الذي يتحول إلى طاقة نفسية ضاغطة. ويحتل الهو وغرائزه كالجنس و الموت اللاشعور أي خارج نطاق شعور الإنسان وتحكمه الإرادي.و ان إطلاق العنان له يؤدي الي الكسل بعيدا عن النظام و العمل، و إلي الإفراط في الطعام و الجنس حتي زنا المحارم. لكن الأنا العليا تمثل الجانب السوسيولوچي للشخصية أي الضمير و المثالية، و تنحو الي الكمال المستحيل و النقد القاسي، فهي شخصية المرء في صورتها الأكثر تحفظًا وعقلانية، حيث لا تتحكم في أفعاله سوى القيم الأخلاقية والمجتمعية والمبادئ، مع البعد الكامل عن جميع الأفعال الشهوانية أو الغرائزية. أما الأنا فهي الجانب السيكولوچي لشخصية المرء في أكثر حالاتها اعتدالًا بين الهو والأنا الأعلى، حيث تقبل بعض التصرفات من هذا وذاك، وتربطها بقيم المجتمع وقواعده، ومن الممكن للأنا أن يقوم بإشباع بعض الغرائز التي يطلبها الهو ولكن في صورة متحضرة يتقبلها المجتمع، ولا يرفضها الأنا الأعلى. فالأنا تمثل الإدراك والتفكير والحكمة والملاءمة العقلية.و هي مركز الشعور،و تعمل وفق مبدأ الواقع،و توازن بين رغبات الهو والمعارضة من الأنا الأعلى والعالم الخارجي، وإذا فشلت في ذلك أصابها القلق ولجأت إلى تخفيفه عن طريق الحيل الدفاعية.

توصف مكونات الشخصية عند فرويد بالديناميكية. وإذا كانت هذه الديناميكية تسير في طريق مستقر وتتفاعل بطريقه سوية أدت إلى وجود إنسان مستقر، ولكن حين تتضارب مكونات الشخصية وتتصارع سيؤدي ذلك إلى الاضطراب النفسي من وجهة نظر فرويد. لذا اعتمدت نظرية التحليل النفسي علي دعم الأنا و تقبل المحتمل من التوترات الباقية والمساعدة في فهم الشخصية و كشف المكبوت و مواجهة الواقع و التكيف معه، مستعينا احيانا، و المريض مستلقي علي أريكته الشهيرة، بالتداعي الحر و بتفسير الأحلام الساعية في ظنه بطبقاتها العميقة لاشباع الرغبات المكبوتة من خلال أفكار و خيالات يتم تشفيرها فيما نتذكره منها كآلية تمنع صدمة ادراك حقيقتها، و بفهم سقطات اللسان، و حتي بمغزي السخرية و النكات. و بالربط بين كل ما سبق يصل لتشخيصه و استنتاجاته.

 و لفهم العلاقات بين نظم الشخصية ربط فرويد بين مراحل التطور الجنسي للفرد منذ الطفولة و تأثير الأسرة و المجتمع و صعوبات الانتقال بينها و السلوك و الصفات الشخصية و الاضطرابات النفسية، بل ايضا بالميل الي بعض المهن،و اسمي تلك المراحل تباعا بالفمية ( يكتشف عالمه بفمه)و الشرجية( يكتشف حدود سلطاته) و الوذرية حتي السنة الخامسة(المساهمة بتشكل الأمراض النفسية كالقلق والاكتئاب والهوس..)ثم الكمون حتي البلوغ (و معظم الدوافع الجنسية في هذه المرحلة يتم قمعها وتوجيهها نحو نشاطات مختلفة كآلية دفاعية مثل الهوايات و الرياضة)و اخيرا المرحلة التناسلية(حيث يتم توجيه مشاعر الغريزة الجنسية تجاهالجنس الآخربدلا من توجيهها تجاه نفسه و الوالدين كما يحصل في المرحلة الوذرية).
و إعتبر أن المرحلة الوذرية التي تستغرق بينثلاث وست سنوات تتميز برغبة الطفل في الاستئثار بأمه، لكنه يصطدم بواقع أنها ملك لأبيه، مما يجعل الطفل في هذه المرحلة من تطوره التي تمتد من السن الثالثة إلى التاسعة يحمل شعورًا متناقضًا تجاه أبيه: يكرهه ويحبه في آن واحد جراء المشاعر الإيجابية التي يشمل بها الأب ابنه. وتجد عقدة أوديب حلها عادة في تماهي الطفل مع أبيه و غيرته منه و شعوره بالذنب، ولأن الطفل لا يستطيع أن يقاوم الأب وقوته، فإنه يمتص قوانين الأب، وهنا يأتي تمثل عادات وأفكار وقوانين الأب في قالب فكري لدى الطفل. ويرى فرويد أن السمات الأساسية لشخصية الطفل تتحدد في هذه الفترة بالذات التي تشكل جسر مرور للصغير من طور الطبيعة إلىالثقافة، لأنه بتعذر امتلاكه الأم يكتشف أحد مكوناتالقانونمتمثلا في قاعدة منعزنا المحارم. و يقابل عقدة أوديب لدي الطفل عقدة إليكترا لدي الطفلة الأنثي حين يكون الميل الي الأب و التماهي في الأم.
خشي فرويد و انصاره اليهودان تؤدي شعبية نظريته عن الطاقة الجنسية او الليبيدو المتمثلة في افكار و دوافع و اغواء او سلوك الي معاداة السامية، فتواصل مع عالم النفس السويسري  كارل يونج الذي اقتنع بها و نشرها، لكنه تعرض للاتهام بالهرطقة، ثم اختلف معه اذ اعتبر يونج ان فرويد يتمسك بارائه، ويبالغ في اهمية عقدة أوديب.و تعرضت نظريات فرويد عن التطور الجنسي للفرد لإنتقادات باعتبار  انها فرضيات لا تستند علي نتائج علمية و بحثية تجريبية، و انها ذكورية معادية للنساء و موسوسة بالجنس، و أنه ركز من خلال نظريته على الفرد، من دون  التطرق إلى تأثير البيئة والمجتمع والثقافة. وركز على السلوك المرضي متجاهلا دراسة ما يسمى بالسلوك الطبيعي. واعتبرت نظرته قاصرة لتركيز نظريته على العامل الجنسي فقط متناسيا العوامل الأخرى التي تساهم في بناء نفسية الفرد.

فضلا عما سبق كان فرويد سباقا في اطلاق ما عرف باضطراب ما بعد الصدمة عندما لاحظ التغيرات النفسية و تداعياتها علي الجنود المرضي في الحرب العالمية الأولي ، و تأثرا بالفقر ما بعد الحرب و تأثيراتها علي ابنيه المجندين و بوفاة ابنته بالانفلونزا الاسبانية أصدر مؤلفه "مابعد مبدأ اللذة" الذي تجاوز فكرته بأن الاضطرابات الجنسية هي فحسب المسئولة عن الإصابة بالأمراض العصابية، فوصف دافعا عدوانيا للداخل نحو الموت و تدمير الذات و التخلص من الروابط نحو الحياة كمسئول آخر عن تلك الأمراض، يضيف الي العدوانية السادية المدفوعة بالغريزة الجنسية و الموجهة للخارج كنزعة للسيطرة علي الجنس الآخر و اثبات التفوق.

لكن شخصية فرويد و إنجازاته لا يسهل تلخيصها في مقالة واحدة، فهو  بحق علامة دارس بعقل ناقد للأديان و الفلسفات و نشأة الخلق و تطوره و التاريخ منذ قبل الحضارات ، و له مؤلفات و مقالات تتعلق- فضلا عن التحليل و العلاج النفسي و الجنس و اللذة و السلوك و الخجل و الشخصية وتفسير الاحلام  الذي اعتبره فتحا جريئا للقرن العشرين - بالحضارات يتناول فيها تطبيق نظرياته علي موضوعات كالزواج واختراع الآلات و السعادة، فإعتبر المجتمع كالشخصية العصابية المتسلطة، لذا يسبب المتاعب و الحروب بممارسة ديكتاتوريته علي الفرد بالتسلط علي رغباته و تقييدها، و كتابات عن الفلسفة فيعيد النظر في البديهيات، و يعتبر ان علم النفس قادر علي تفسير حياة الإنسان،و حتي عن الدين؛ فرغم إلحاده إلا أنه أعتبر أن للإعتقاد الديني وظيفة تجعل المؤمن يشعر بالدعم لجهوده و بالقناعة بما لديه، و بأنه سيتم تعويضه علي معاناته، و أوضح أن المؤمن الذي لا يطبق عقيدته ليس مؤمنا.  

فرويد كان بحاثة، و دفعه ذلك و طموح زوجته الي دراسة الطب بدلا من القانون، و استمر في دراسته ثمان سنوات بدلا من اربعة، كان عقلية تحليلية فريدة، فلم يرغب في اكتشاف نفسه فحسب بإعمال الموضوعية و النزاهة في بحث جوانب شائكة و غير مطروقة من دوافع الفرد، بل حتي انه في دراسته للتشريح، متأثرا بنظريات داروين عن نشأة الخلق، عكف  بلا جدوي علي البحث عن العضو الذكوري في ثعبان البحر، و قادته ابحاثه في علم الأعصاب الي التعاون ثم الخلاف مع علماء في مجاله، و الي الانتقال من ڤيينا (التي درس بها طفلا و يافعا وجامعيا بعد هجرة والديه اليها لإفلاس تجارة الوالد)الي پاريس، قبل العودة الي ڤيينا ثانية و أخيرا الهروب منها الي لندن اثناء الحرب العالمية الثانية بعد اقتحام النازي لڤيينا و إضطهادهم لليهود و إحراق كتبه.و هو نفسه لم يكن سعيدا، و عاني من الإحباط والقلق و الرهاب رغم ان تزوج و انجب ممن أحبها،و كاد أحيانًا أن يصاب بإنهيار نفسي إذا تركته، و استعان بجرعات صغيرة من الكوكايين ليفض الشعور بالكآبة، و ليكون علي مستوي طموحات زوجته المالية التي كانت وراء تحوله الي الطب، كما فشل في إستخدام الكوكايين علاجيا علي مرضاه ،و رأي انه مهما عرف الانسان نفسه يبقي دوما جانب غير منطقي مجهول منها. بل انه إعتبر أن إدمانه تدخين السيجار تعويض عن العادة السرية، و هو الإدمان الذي أدي الي اصابته بسرطان اللسان واجراء عدة عمليات جراحية، حتي حاول الانتحار، وحتي انه بالفعل تلقي بناء علي رغبته جرعة قاتلة من المورفين، توفاه الله علي أثرها.

مهما كان الجدل حتي الآن تجاه نظريات فرويد، فلا يمكن،فضلا عن فوائدها العلاجية،انكار انها و نتائجها جزء من حقيقة عالمنا المعاصر ثقافيا، و تماثلت مع روح عصره فيما ظهر من مدارس فنية تبحث وراء الشكل عن المضمون، وأنها انتقلت الي العالمية، فتبناها جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية في تحديه للتقاليد، فزاد الشعور بالفردية و تأثيره علي فنون الدراما و الموسيقي و السينما في الغرب، كما جري تصميم الاعلانات التجارية بمراعاة الدوافع التي تناولها فرويد لارضائها،و أنها من اسباب الشعور بالتحرر من الذنب و من مسلمات الماضي و تحدي تعاليم الكنيسة المتزمتة، و النزعة للتبصر الذاتي و فهمنا لدوافعنا الجنسية و تناولها علانية علي تباينها، و لشرور النفس البشرية الدفينة، و لماهية اللاوعي كمخزون للدوافع اللامنطقية و الرغبات و الغرائز الدفينة إضافة لمصطلحات ابتكرها و شاعت.بل انه زاد وعي الفرد بنفسه و بعلاقاته و باهمية فترة الطفولة للنمو النفسي، و حتي عندما يتهمه منتقدوه بأن التحليل النفسي يجعل الفرد متمحورا حول ذاته، فقد أضاء الطريق الي فهم الماضي و استيعابه و التحرر من عقده حتي يكون الفرد سيدا علي عقله.

في عصر تميز بالثورة الصناعية و العلمية في أوروبا و بالثورة المجرية علي الامبراطورية النمساوية و الحراك والتحولات الإجتماعية في مجتمع متعدد العرقيات بڤيينا و انتشار الافكار الليبرالية بها عوضا عن سيطرة التقاليد الإرستقراطية المحافظة، و علي الأدق عام ١٨٥٦ ولد سيجموند فرويد لاسرة متوسطة يهودية في پريبور-تشيكيا التي كانت جزءا من امبراطورية النمسا و المجر . والده تاجر صوف متسلط و صارم،و متزوج للمرة الثالثة ممن تصغره بعشرين عاما، انجبت ستة اطفال  ، كبيرهم سيجموند الذي لاحظت نبوغه، فضحت مع والده لتعطيه افضل تعليم، نبغ فيه مدرسيا و جامعيا ،واحاطته بالعطف و الحنان، و ميزته عن اقرانه، و كما يقول انه كان أول مرضاه، فهل نشب متأثرا بعقدة اوديب محبا لوالدته الشابة الحنونة، و مكتسبا لصفات المنافس له في محبته لها، أي صفات الوالد الصارم المتسلط المنافس!  فتزوج عوضا عنها بمن احبها بعمق و أوفي لها، و منحها و ابحاثه حبا و عطاء ورثه عن قيم والدته، و اضاف من قدراته نبوغا دراسيا و تطلعا للتفرد زكته به أمه اقتداء بسير عظماء التاريخ وميز ابحاثه، فضلا عما ورثه من اخلاق والده، فاطلق صرامته جهدا و وقتا و تدقيقا في دراساته و ابحاثه، و اعانته الرغبة في الفوز و التسلط لفرض ابحاثه المثيرة للجدل علي المجتمع العلمي المقاوم بشدة، حتي انتصر، و اصبح مدرسة، مازالت تدرس حتي الان رغم التطور في علم النفس.
و نظرة علي مراحل حياة فرويد قد تبين ارتباطا بين علاقته بأمه و اكتشافه عقدة أوديب، و بين تسلط و صرامة الوالد و تمسك فرويد بنظرياته و خلافاته مع شركائه في ڤيينا و فرنسا و سويسرا بل و المجتمع العلمي و الكنيسة حتي فرض اراءه، و بين شعوره بالضياع بعد صدمة وفاة الوالد و اكتشافه لأنظمة الشخصية ، و بين معاناته المالية و الأسرية عقب الحرب العالمية الأولي و حديثه عن غريزة الموت،  و بين إدمان السيجار و العادة السرية، و بين صعوبات ممارسة التنويم و اكتشافه نظرية التحليل النفسي،و بين رغباته الجامحة و دوافع اللاوعي اللامنطقية و سعيه الحثيث لاكتشاف اللاوعي عبر نظرياته و ممارساته، و بين النزعة للتميز الواثقة و ذلك النبوغ الدراسي و الجهد و الارادة و التفاني الذي أدي لإكتشافاته. مسيرة حياة و كفاح لشخصية رائدة جعلت دوافعها الجامحة و ذكاءها الخارق و قوة إرادتها و محبتها و قدرتها علي التبصر و التعلم بالألم البناء وقودا و نبراسا لمشعل نور يضيئ الطريق للانسانية للوعي و التطور النفسي، و مازال تأثيره ممتدا حتي بعد ثمانين عاما من وفاته علي صناعة الإعلان و الفنون و الثقافة و الفكر و الفلسفة.