قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

نجاة عبد الرحمن تكتب: منصات التأثير الثقافي والديني.. الاختراق الناعم

نجاة عبد الرحمن
نجاة عبد الرحمن

أكتب اليوم عن معركة أراها من أخطر ما يواجه وطننا في هذه المرحلة: معركة الوعي. لم يعد الغزو في عصرنا عسكريًا مباشرًا، ولم يعد الخصم يطرق أبوابنا بوجهه الصريح، بل صار يدخل في ثياب مألوفة، متخفّيًا وراء شعارات رنانة مثل "الفن"، "الحداثة"، "حقوق الإنسان"، و"التجديد الديني". وهنا تكمن الخطورة: إننا لا نواجه سلاحًا ظاهرًا، بل خطابًا ناعمًا يتسلل ببطء ليعيد تشكيل العقول.

لقد لفت انتباهي أنّ بعض المراكز الثقافية والورش الفنية تُعلن دعمها للإبداع، لكنها في الحقيقة تستمد تمويلها من جهات إقليمية ودولية. والنتيجة أنّ ما يُنتَج داخلها من أفلام قصيرة أو عروض مسرحية قد يُعرض محليًا كفن مستقل، لكنه يُسوَّق خارجيًا باعتباره "صوت المعارضة الثقافية".

ولا يخفى على القارئ المتابع أنّ بعض المنصات الرقمية الشبابية التي تبدو عصرية، مرتبطة بتمويل من دولة عربية شقيقة معروفة بإعلامها العابر للحدود. هذه المنصات لا تهاجم الدولة علنًا، لكنها تكتفي بتضخيم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، متجاهلة عمدًا أي إنجاز وطني، وكأنها تنسج صورة ناقصة يراد لها أن تحل محل الحقيقة الكاملة.

وكذلك فإن بعض المهرجانات والفعاليات الدولية التي تُقام في القاهرة والإسكندرية، وإن بدت في ظاهرها احتفاءً بالفن أو الأدب، تتحول عمليًا إلى بوابة تمرير خطاب ثقافي يتماهى مع أجندات خارجية، حيث يصبح التمويل مشروطًا بمضمون يوجَّه تدريجيًا ضد مؤسسات الدولة الوطنية.
وأرى أن الأخطر من ذلك كله هو ما يجري في ساحة الدين. إذ تعمل بعض الشبكات الدينية على إعادة إحياء خطاب الإسلام السياسي، مدعومة من دولة عربية شقيقة معروفة باحتضانها لهذا التيار. هذه الشبكات تبث سرديات الماضي القريب، وتُحاول النيل من ثقة الناس في مؤسساتهم الدينية الوطنية.

ولا يقف الأمر عند هذا الحد، فهناك دولة إقليمية غير عربية معروفة بتصدير ثورتها الدينية تحاول التسلل عبر أنشطة ثقافية تحمل أدبيات مذهبية تُقدَّم تحت مسمى "التنوع المعرفي"، بينما حقيقتها أنها محاولات لاختراق النسيج الوطني.

أما ما أراه أشد خفاءً وخطورة فهو انتشار بعض المحتوى الرقمي الذي يُبسط الإلحاد ويُروّج للنسبية الأخلاقية، مقدمًا نفسه على أنه "حرية فكرية"، بينما هدفه النهائي هو تفكيك الهوية الدينية والوطنية للشباب.

أؤكد هنا أن هذه المنصات لا تعمل فرادى، بل تستند إلى قنوات تمويل خفية. فهناك بعض المؤسسات الحقوقية الخارجية التي تمنح تمويلًا تحت لافتة "التدريب" أو "دعم المجتمع المدني"، لكنه في الواقع يُوجَّه لمجموعات بعينها. وهناك أيضًا بعض المنح الدراسية التي تُستخدم لتشكيل نخب صغيرة متأثرة برؤية الدولة الممولة، ليُعاد توظيفها لاحقًا كقادة رأي في الداخل. وحتى بعض أشكال التعاون الثقافي مع مؤسسات نشر وفن في الخارج، لا تخلو من اشتراطات دقيقة تتحكم في طبيعة المحتوى المسموح به داخل مصر.

أحذّر من أنّ اللغة المستعملة في هذه الاختراقات ليست عابرة؛ بل هي مقصودة. كلمات مثل "المقاومة الثقافية" و"الحرية المطلقة" تبدو للوهلة الأولى بريئة، لكنها تُستخدم كأدوات تعبئة؛ للتسلل الخفي،  كذلك، فإنّ تطبيع الأزمات وتصويرها كأوضاع أبدية، ليس إلا محاولة منظمة لنزع الأمل من وعي المواطن. أما التسلل عبر الفن الشعبي والأغنية المستقلة والكوميديا الرقمية، فهو الوجه المرح لهذه الحرب الناعمة.

في رأيي، الحل لا يكون بإغلاق الأبواب ولا بمصادرة الفن والفكر، بل بتمكين مؤسساتنا الوطنية لتكون منافسًا حقيقيًا. قصور الثقافة، المكتبات العامة، والمنتديات الشبابية يجب أن تتحول إلى منصات نابضة بالحياة، قادرة على الجمع بين الترفيه وبناء الوعي.
و أعتقد أن تلك الرؤية سبق و أعلن عن تبنيها دكتور احمد هنو وزير الثقافة الحالي، و قوبلت تلك الرؤية الوطنية بهجوم حاد، و حرب نفسية ضد الوزير ذاته لترك ذلك الملف .

كما أرى ضرورة إرساء مبدأ الشفافية: كل مؤسسة ثقافية أو دينية تعمل في مصر يجب أن تُعلن مصادر تمويلها علنًا. وفي الجانب الديني، أعتقد أن تمكين الخطاب الوسطي الوطني، الذي يجمع بين الأصالة والتجديد ويحاكي لغة الشباب، هو خط الدفاع الأول.

وأخيرًا، على التعليم والإعلام أن يُدخلا مفهوم "الأمن الثقافي" في وعي الأجيال الجديدة، وأن يُشجعا المبادرات الشبابية الوطنية التي تستطيع أن تُقدِّم محتوى بديلًا ومقنعًا، بدلًا من ترك الساحة خالية للمنصات الممولة خارجيًا.

إنني أرى بوضوح أن أخطر ما تواجهه مصر اليوم ليس الغزو العسكري ولا الصدام السياسي المباشر، بل الحرب الناعمة التي تُدار بالكلمة والصورة والفكرة. المعركة الحقيقية هي معركة الوعي، ومن يربح هذه المعركة يربح المستقبل.