في السادس من أكتوبر عام 1973، أشرقت شمس يوم لا يُنسى في ذاكرة الأمة المصرية والعربية، يوم أعاد لمصر عزتها، وللعالم العربي كرامته المهدرة بعد سنوات من الانكسار. كان ذلك اليوم هو اللحظة التي تحطمت فيها أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، حين عبر أبطال الجيش المصري قناة السويس في ملحمة تاريخية أدهشت العالم وغيرت موازين القوى في المنطقة إلى الأبد.
لم يكن ذلك النصر وليد الصدفة، بل كان ثمرة رؤية استراتيجية عميقة قادها الرئيس الراحل محمد أنور السادات، الذي أدرك منذ اللحظة الأولى بعد نكسة 1967 أن استعادة الأرض والكرامة لا تأتي إلا من خلال الإعداد الدقيق والعمل الدؤوب. جاءت حرب الاستنزاف كمرحلة إعداد حقيقية أعادت للجيش ثقته بنفسه، ورفعت من كفاءته القتالية، وكانت بمثابة تمهيد عملي ونفسي لمعركة التحرير الكبرى. السادات، بحكمته وشجاعته، اتخذ قرار الحرب في توقيت بالغ الذكاء، متحديًا توقعات العدو ومفاجئًا العالم بجرأته وثقته في قدرات المصريين.
وقد تجلت عظمة هذا القرار في تلاحم قادة الجيش وجنوده، إذ كان وراء هذا النصر العظيم فريق من القادة الاستثنائيين الذين عملوا بتكامل وانسجام نادرين. أعيد بناء الجيش بقيادة الفريق أول محمد فوزي، ثم وضع الفريق سعد الدين الشاذلي خطة العبور المحكمة التي شكلت جوهر النجاح العسكري، فيما قاد الفريق أحمد إسماعيل القوات المسلحة خلال الحرب بحكمة وصلابة. ومن خلف هؤلاء، كان آلاف الجنود والضباط يرسمون على أرض المعركة لوحة نصر خالدة بدمائهم وشجاعتهم وإيمانهم بوطنهم. لقد كان نصر أكتوبر ثمرة جهد جماعي مخلص، جمع بين التخطيط المتقن والإرادة الصلبة والإيمان بعدالة القضية.
لكن السادات لم يتوقف عند حدود النصر العسكري، بل امتلك شجاعة اتخاذ قرار لا يقل جسارة عن قرار الحرب، وهو فتح باب السلام من موقع القوة. فالرجل الذي خاض المعركة وحقق النصر كان يدرك أن السلام الحقيقي لا يصنعه الضعفاء، بل يصنعه من يملكون القوة والقدرة على حماية مصالحهم. ومن هذا المنطلق، كانت خطواته السياسية اللاحقة انعكاسًا لرؤية بعيدة المدى، أعادت لمصر دورها القيادي في المنطقة وفتحت صفحة جديدة من العلاقات الدولية.
واليوم، وبعد مرور أكثر من خمسة عقود على ذلك الحدث المجيد، تستمر روح أكتوبر في وجدان المصريين، ويواصل الرئيس عبد الفتاح السيسي ترسيخ معانيها بأسلوب معاصر يجمع بين الحسم والحنكة السياسية. ففي ظل أحداث غزة الأخيرة، كانت تحركات الدولة المصرية تعكس ثبات الموقف وعمق الرؤية؛ فلا تنازل عن الحقوق، ولا تفريط في الأمن القومي، مع سعي حثيث لاحتواء الأزمة ودعم الاستقرار في المنطقة. وقد رأى كثير من المحللين الإسرائيليين أن مصر، باختيارها توقيت مواقفها السياسية أثناء احتفالات أكتوبر، أرادت أن تذكرهم بهزيمتهم التاريخية في هذا اليوم، في رسالة ذكية تؤكد أن من صنع النصر بالأمس لا يزال قادرًا على حماية مصالحه اليوم.
إن نصر أكتوبر ليس مجرد ذكرى تمر في التقويم، بل هو روح حيّة تسكن الوجدان المصري، تُلهم الأجيال وتغرس فيهم معاني العزة والصمود. من الرئيس الراحل السادات الذي اتخذ قرار العبور والسلام، إلى الرئيس السيسي الذي يرسم بخطى واثقة ملامح سياسة مصر الإقليمية والدولية، تبقى الرسالة واحدة: نحن دعاة سلام أقوياء، نحمل في ذاكرتنا نصرًا خالدًا، وفي حاضرنا إرادة لا تلين، وفي مستقبلنا إيمان لا يتزعزع بأن مصر قادرة دائمًا على صنع الفارق.