يقيني الراسخ أن بعض الأحداث التاريخية ذات البعد الاستراتيجي مثل مشروع الضبعة النووي، تحتاج من الكتاب والمفكرين - بل ومن كل المنابر الإعلامية المتاحة إلقاء الضوء عليها بين الحين والآخر، لتعميق إحساس المواطن بأهميتها الحيوية للأجيال الحالية والمستقبلية. لذا دعوني أطلعكم من خلال هذا المقال على معلومات ثرية لأحد أهم الأهداف التكنولوجية المتعلقة بالطاقة، والتي بدأنا نرى ملامحها واقعاً ملموساً بعد عقود من الانتظار.
الجذور التاريخية للمشروع من الممكن تقسيمها لثلاث حقب زمنية؛ الأولى كانت مجرد حلم يدور في فلك الأماني الممكنة، أيام الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وتحديدًا عام ١٩٥٥، حين أبدت مصر اهتمامًا ملحوظًا بالطاقة النووية، فشكلت 'لجنة الطاقة الذرية' وافتتحت مفاعلها الذري الأول عام ١٩٦١ بمنطقة 'أنشاص' بقدرة بحثية محدودة، وبالتعاون مع الاتحاد السوفيتي (روسيا حالياً)، لأغراض علمية فقط، وأعلنت مصر نفسها بين الأمم دولة نووية بعقيدة سلمية".
أما الحقبة الثانية فسجلت حضورها باختيار الرئيس أنور السادات لموقع المشروع العملاق. فبعد دراسات جغرافية وجيولوجية مستفيضة، صدر القرار الجمهوري التاريخي عام ١٩٨١ بتخصيص الأرض في منطقة "الضبعة" بمحافظة مطروح. ثم أتت اللحظة الفارقة مع الحقبة الثالثة، أو ما يمكن تسميته "حقبة التجميد"، حين توقف المشروع عن التنفس لأسباب قهرية إبان حكم الرئيس الراحل حسني مبارك، متأثراً بالذعر العالمي الذي خلفته كارثة تشيرنوبيل عام ١٩٨٦، وتم صرف النظر "مؤقتاً" لغياب ضمانات الأمان الكافية آنذاك.
في عام ٢٠١٤، عادت الروح لرئة المارد النووي المصري من جديد، عندما صممت الإرادة السياسية بخطى واثقة على استكمال المسيرة. وتوج الرئيس عبدالفتاح السيسي هذه الجهود بتوقيع العقود النهائية مع الجانب الروسي في ١١ ديسمبر ٢٠١٧، وهي العقود التي تضمن -بجانب الإنشاء- توريد الوقود النووي طوال العمر التشغيلي للمحطة (٦٠ عاماً)، وتدريب الكوادر المصرية، وبناء مرافق آمنة لتخزين الوقود المستنفد. ومنذ ذلك الحين، تسارعت وتيرة العمل بدءاً من صب الخرسانة في يوليو ٢٠٢٢، وصولاً إلى إطلاق الإنشاءات الكبرى لكامل وحدات المحطة.
ومع تحول الحلم إلى خرسانة وحديد على أرض الواقع، كان لا بد من تبديد التساؤلات المشروعة حول السلامة؛ لتفادي الكوارث المتوقعة لأي مشروع نووي، لذا راعت مصر التعامل بدقة في هذا الأمر، بداية من التعاقد على مفاعلات من طراز حديث مثل (VVER-1200)، وهي من الجيل الثالث المتطور (Gen 3+)، الذي يتضمن تحسينات هائلة في الأمان والكفاءة، مقارنة بالمفاعلات القديمة لجعل سيناريو مثل تشيرنوبيل مستحيلاً "عمليًا"، فعلى سبيل المثال لا الحصر أن المفاعل يستخدم أنظمة أمان "نشطة" و"سلبية" (تعمل دون تدخل بشري عند انقطاع الطاقة)، بينما توجد أيضًا مصيدة قلب المفاعل (Core Catcher) وهي عبارة عن وعاء ضخم يقع أسفل المفاعل لاحتواء المواد المنصهرة بقلبه في حالات (نادرة جداً) ، ومنع تسربها للتربة أو البيئة، وتعتبر هذه الميزة حصرية للمفاعلات الروسية فائقة الأمان.
آخر المحطات التي وصل إليها قطار إنجاز المشروع العملاق، هي تركيب وعاء ضغط المفاعل، أو (Reactor Pressure Vessel - RPV) للوحدة النووية الأولى، التي شهد تدشينها الرئيسان عبدالفتاح السيسي وبوتين في التاسع عشر من نوفمبر الماضي عبر تقنية الفيديو كونفرانس، وتعد مرحلة فارقة في مسار المشروع، حيث يطلق على هذا الوعاء تقنياً "قلب المفاعل(Heart of the Reactor)، وهو عبارة عن أسطوانة فولاذية عملاقة تزن 330 طناً، وطولها حوالي 12-13 متراً، ووظيفة قلب المفاعل الأساسية؛ العمل كوعاء احتواء فائق القوة، يوضع بداخله الوقود النووي، حيث تتم فيه عملية الانشطار النووي وتوليد حرارة هائلة، اللازمة لإنتاج الكهرباء. تشبه تلك العملية ضخ القلب للدماء في جسد الإنسان، وبدخول الوحدة الأولى للمفاعل من أصل أربعة إلى الخدمة بمشيئة الله تعالى عام ٢٠٢٨؛ سوف يضخ هذا الوعاء الفولاذي شريان حياة جديد من الكهرباء النظيفة في أوصال الشبكة القومية المصرية. قوة تدفقه تبلغ ١٢٠٠ ميجاوات لكل وحدة، لتصل الطاقة المنتجة في مجملها بكامل الوحدات إلى ٤٨٠٠ ميجاوات عام ٢٠٣٠.
ختامًا عزيزي القارئ، أرى أنه من المهم الإشارة إلى ضرورة استمرار استراتيجية تشجيع التعليم النووي، متمثلة في مدرسة الضبعة النووية؛ لتخريج دفعات متعاقبة تتسلم الراية من علماء يحملون على عاتقهم مسؤولية الاعتماد على الذات، وبناء مفاعلات مستقبلية كثيرة، بعقول وسواعد مصرية خالصة، بعد صقل خبراتهم بهذا المجال الحيوي. والشيء بالشيء يُذكر، فإن وعي أولياء الأمور لا بد أن يتغير أيضًا؛ وأن يسيروا بموازاة صناع القرار ويشجعوا أبناءهم على الاجتهاد العلمي منذ الصغر، وصولاً إلى الالتحاق بمثل هذا النوع من التعليم المرموق الذي يستهدف أجيالًا من العباقرة بمواصفات خاصة.