براءٌ… يا طفلَ غزّةَ، يا ظِلَّ الحكايةِ الذي رافقني عبرَ الأزمنةِ المتراميةِ على بحرِ الذكرياتِ، أكتبُ إليكَ اليومَ للمرةِ الأخيرةِ.
ليس لأن قلبي تعبَ، أو لأن يراعي جَفَّ،
بل لأن الوصلَ الذي كان يربطني بك وبحسامٍ انقطعَ، انقطاعًا يُشبهُ قطعَ حبلِ الوتينِ؛ وانسلاخَ الروحِ من الجسدِ، حين لا يعودُ شيءٌ كما كان، ولا يبقى للطريقِ معنًى.
كانت الكلماتُ تعرفُكما، وكان السرُّ يمشي بخِفَّةٍ بين الحروفِ، ثم فجأةً… غابتِ الكلمةُ، وغاب سرُّها، وصِرتُ أقفُ عاجزًا أمام حروفٍ أُرسِلُها من أعماقِ الوجدانِ.
سألتُ عنكما مرّاتٍ ومرّاتٍ… لكنَّ التجاهلَ كان سيّدَ الموقفِ؛ لا جوابٌ، ولا إشارةٌ، وكأنَّ الهواءَ نفسُه اختار الصمتَ، وربما لأني كنتُ صادقًا، فالصدقُ في زمنٍ كهذا يُرهقُ أكثرَ ممّا يريحُ.
بحثتُ عنكما في الصدَى، في الخطى، في الأخبارِ التي لا تأتي، لكنَّ كلَّ الطرقِ التي كانت تؤدّي إليكما أصبحت بلا ملامحَ، وانطفأتِ المعاني واحدًا تلوَ آخرَ، حتى لم يبقَ في يدي سوى فراغٍ يُشبهُ الغيابَ.
ومع ذلك… ورغم كلّ ما انقطعَ وتلاشى، تبقى أمنيةٌ واحدةٌ: أن تكونا بخيرٍ، هذا كلُّ ما تبقّى.. أن يحفظَكما اللهُ، قلبي لم يزلْ يُراوحُ بين الصمتِ والذكرى، وأنا أذكركما في صدَى كلِّ كلمةٍ لم تُرسَلْ.
براءٌ… يا صغيرَ غزّةَ، وحسامٌ يا ظلَّه… أعرفُ أنّ كلماتي لن تصلَ إليكما بعدَ اليومِ، فاعلما أنَّ الطريقَ هو الذي ضاع، لا قلبٌ أحبَّكما، وداعًا يا أبطالَ غزّةَ… وداعًا حتى أطمئنَّ عليكما، ولو بكلمة، ولو بهمسةٍ.. أنتظرُ آيةً من آياتِ السماء.
﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ﴾