لم يكن فوز الدكتور خالد العناني بمنصب مدير عام منظمة اليونسكو مجرد انتصار انتخابي عابر، بل هو حدث يحمل في طياته معاني رمزية وتاريخية عميقة تتجاوز حدود الشخص إلى فضاء الأمة والثقافة والحضارة، فهو ليس فقط أول مصري، بل أول عربي وإفريقي يتولى قيادة هذه المنظمة الدولية العريقة، التي تمثل الضمير الثقافي والإنساني للعالم.
منذ تأسيس اليونسكو عام 1945، ظلت القيادة فيها حكرًا على الغرب وأمريكا اللاتينية وآسيا، بينما كانت إفريقيا والعالم العربي في موقع المتلقي أكثر من الفاعل، اليوم، يعيد انتخاب العناني توازن المشهد الثقافي العالمي، ويمنح مصر والعرب وأفريقيا مقعدًا مستحقًا على طاولة القرار في واحدة من أهم مؤسسات الفكر والهوية في العالم.
مصر.. تعود إلى قلب العالم الثقافي
على مدار قرنٍ من الزمن، كانت مصر —بآثارها وفكرها ومثقفيها— مصدر إشعاعٍ حضاريٍّ للعالم، لكنها رغم هذا الإرث لم يسبق أن قادت مؤسسة دولية بهذا الحجم، لذلك فإن فوز العناني يمثل عودة مصر إلى دورها الطبيعي كقائدة للفكر الإنساني وراعية للثقافة العالمية.
إنه ليس مجرد فوز دبلوماسي، بل ترجمة عملية للقوة الناعمة المصرية، تلك التي تنبع من التاريخ لا من السياسة، ومن المعرفة لا من النفوذ.
العناني.. تجسيد للعلم والعقلانية
لا يأتي هذا الإنجاز من فراغ، فالدكتور خالد العناني واحد من أبرز علماء الآثار في العالم، جمع بين الصرامة الأكاديمية والحنكة الإدارية، وبين شغف الباحث ودقة الوزير، خلال سنواته في وزارة السياحة والآثار، استطاع أن يغيّر صورة مصر في أعين العالم عبر مشروعات أصبحت رموزًا للنهضة الثقافية، مثل المتحف القومي للحضارة المصرية وموكب المومياوات الملكية، اللذين أعادا تعريف العلاقة بين المصريين وتاريخهم، وعرّفا العالم بوجه مصر المعاصر القادر على صون ماضيه والتحدث بلغة المستقبل.
العناني ليس مجرد عالم آثار، بل مفكر إداري يدرك أن التراث ليس حجارةً صامتة، بل ذاكرةٌ حيةٌ للأمم، ومن هنا تأتي قيمته في قيادة منظمة مثل اليونسكو، التي تبحث عن مَن يجمع بين الفهم الإنساني للثقافة والرؤية الاستراتيجية لتحديات العصر — من التعليم والتحول الرقمي إلى حماية الهوية في مواجهة العولمة.
رمزية عربية وإفريقية عميقة
أن يتولى عربي وإفريقي قيادة منظمة تُعنى بالثقافة والهوية يعني الكثير، فهذا المنصب يعيد الاعتبار إلى القارة التي طالما صدّرت للإنسانية أولى حضاراتها، وإلى المنطقة العربية التي كانت مهدًا للديانات واللغة والفكر.
فوز العناني يُكسر احتكارًا غير معلن للمناصب الثقافية الكبرى، ويفتح الباب أمام صوت الجنوب العالمي ليُسمع داخل أروقة المؤسسات الدولية، ويمنح العالم فرصة لرؤية التراث الإنساني من زاوية أكثر شمولًا وعدلًا وإنصافًا.
القوة الناعمة المصرية في أبهى صورها
في زمن تُقاس فيه قوة الدول بما تملكه من تأثير ثقافي وقيمي، يأتي هذا الفوز ليؤكد أن القوة الناعمة المصرية لم تضعف رغم كل التحديات، فمصر لم تكن يومًا دولة غنية بالنفط أو المال، لكنها كانت دومًا غنية بالمعنى، بالكتاب والفيلم والموسيقى والفكر والفن.
تولي العناني اليونسكو هو بمثابة استعادة رسمية لمكانة مصر في وعي العالم، وهو تتويج لمسار طويل من الدبلوماسية الثقافية الهادئة التي عملت بصبر على إعادة مصر إلى المشهد الدولي بوصفها دولة الوعي والمعرفة.
رسالة إلى العالم
إن فوز الدكتور خالد العناني لا يخص مصر وحدها، بل هو انتصار لفكرة الحضارة ذاتها، للثقافة في وجه الجهل، وللذاكرة في مواجهة العدم.
فاليونسكو ليست مؤسسة بيروقراطية، بل بيت للضمير الإنساني، وقيادتها من قِبَل مصري تعني أن العالم اختار أن يُنصت من جديد إلى صوتٍ يعرف الفرق بين التنوير والتزييف، وبين الأصالة والتقوقع.
بهذا المعنى، فإن انتخاب العناني لا يمثل تتويجًا لماضٍ مصري عظيم فحسب، بل بداية عهد جديد لثقافة عربية وإفريقية تسعى لأن تكون جزءًا من صنع المستقبل لا مجرد شاهدة عليه.
وإذا كانت الحضارة المصرية هي أول من كتب التاريخ، فإن تولي مصري رئاسة اليونسكو اليوم هو لحظة تُعيد فيها هذه الحضارة القلم إلى يدها من جديد.