في القرن الإفريقي، لم يعد تغيّر المناخ مجرد مصطلح بيئي يُتداول في المؤتمرات بل يتحوّل الطقس إلى قدر، ويصبح المطر حدثًا سياسيًا، والجفاف لحظة تُغيّر شكل العائلات والحدود والاقتصادات. المنطقة من الصومال لإثيوبيا وكينيا وجيبوتي تعيش واحدة من أكثر قصص المناخ قسوة في العالم. وفق تقديرات وتحليلات إقليمية ودولية، الملايين في هذه الدول يواجهون أمنًا غذائياً متدهورًا ونزوحاً متكرراً مرتبطاً بالمناخ والصراع.
ففي الصومال اصبح الماء سبب النجاة وسبب الهجرة حيث تتتابع سنوات الجفاف كأنها فصول في رواية حزينة لا تنتهي. الأراضي الزراعية تضعف، الماشية تموت، والقرى تتآكل. ومع كل موسم جفاف، ينزح آلاف السكان من القرى إلى المدن بحثًا عن ماء أو فرصة عمل أو حتى مخيم يضمن الحد الأدنى من الحياة. في 2024 سجّل الشركاء الإنسانيون نحو حوالي 555,000 حالة نزوح داخلي خلال العام (نصفها تقريبًا نتيجة للصراع والفيضانات أيضاً)، بينما خلال منتصف 2025 أفادت تقارير أن حوالي 4.6 مليون شخص في حالات انعدام أمني غذائي في فترات ذروة الجوع. الضغوط هذه دفعت موجات نزوح كبيرة إلى مدن مثل مقديشو وبيدوا، ما خلق ضغطًا على الخدمات وأدى إلى صدامات حول الأرض والموارد.
أما إثيوبيا فالمناخ يؤجّج صراعات كانت تحت الرماد حيث تعد إثيوبيا نموذجًا صارخًا للتشابك بين المناخ والنزاع. في الأقاليم الشرقية مثل الصومال الإثيوبي وعفر، ساهم الجفاف الشديد في تغيير مسارات الرعاة، ما أدى إلى احتكاكات مباشرة بينهم وبين مجتمعات زراعية تستنزف نفس الموارد القليلة المتبقية. الأرقام تُظهر أن إثيوبيا تضم أكثر من 2.27 مليون نازح داخلي حتى 2024–2025، وتستضيف نحو 1.1 مليون لاجئ؛ وفي منطقة عفر وحدها كانت هناك تقارير عن أكثر من 220,000 عائد/نازح يعانون من ضغط على الخدمات. تحت ضغط الندرة، تظهر النزاعات التقليدية بشكل أكثر حدّة: صراعات على الآبار، توتر حول أراضٍ رعوية، وهجرات جماعية تُعيد رسم الحدود القبلية.
لم يختلف الوضع كتيرا في كينيا حيث يهدد الجفاف الأمن الغذائي ويُطلق موجات نزوح جديدة في شمال كينيا، حيث تعتمد القبائل على تربية الماشية، أدّى الجفاف المتكرر إلى خسائر ضخمة في الثروة الحيوانية. أحدث تقييمات غذائية أظهرت أن حوالي 2.2 مليون شخص يواجهون حالة طوارئ غذائية (فبراير–مارس 2025)، وأنَّ خسائر المحاصيل والمراعي شهدت أرقامًا كبيرة حيث أظهرت تقارير فقدان حوالي 61,000 فدانًا من المزروعات ومئات آلاف رؤوس الماشية المتأثرة (مع تسجيل تقارير عن أكثر من 11,300 حالة وفاة للماشية في فيضانات/أحداث متقلبة أيضاً). ومع اختفاء مصادر الغذاء والدخل، اضطرّت العديد من العائلات إلى النزوح نحو مناطق أكثر خصوبة، ما خلق احتكاكات مع المجتمعات المضيفة في مناطق مثل توركانا ومارسابيت.
جيبوتي… بلد صغير في مواجهة موجات الهجرة الأكبر منه
وجيبوتي، رغم صغر مساحتها، أصبحت نقطة عبور واستقبال مهمة للمهاجرين واللاجئين من إثيوبيا والصومال واليمن. حسب بيانات مفصّلة، تستضيف جيبوتي ما بين 32,000 إلى 33,000 لاجئ وطالب لجوء (تمثّل نسبة ملحوظة من سكانها)، حيث يشكل الصوماليون والإثيوبيون اليمنيون المجموعات الأكبر. الجفاف في دول الجوار دفع مزيدًا من الشباب للبحث عن طريق جديد عبر البحر الأحمر، ومع محدودية الموارد في جيبوتي يتزايد الضغط على المياه والخدمات الصحية، مما يجعل البلاد في سباق دائم بين الاستقبال والسيطرة على الأوضاع.
فما يميز القرن الإفريقي اليوم ليس فقط حجم الأزمات، بل تزامنها: تغيّر مناخي يزيد ندرة الموارد، هجرات بشرية كثيفة داخليًا وخارجيًا، توترات قبلية وسياسية قديمة تتجدد، وحكومات تواجه تحديات اقتصادية وأمنية ضخمة. تقارير إقليمية ودولية تُشير إلى أن المزيج بين الكوارث الطبيعية والنزاعات أدى إلى ملايين الحالات من النزوح الداخلي والإقليمي خلال السنوات الأخيرة، ما يجعل الحاجة للاستجابة المتكاملة أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى.
و السوال هنا في المستقبل… هل سيبقى الناس قادرين على البقاء؟
القرن الإفريقي اليوم يقف على حافة تحوّل تاريخي: الدول مضطرة للتعامل مع أزمات الطقس كما تتعامل مع الحروب — بخطط أمنية، وقوانين جديدة، وتحالفات دولية هدفها إنقاذ ما يمكن إنقاذه. لكن الحقيقة الأعمق أن الإنسان هناك لا يحتاج سوى شيء كان طبيعيًا يومًا ما: مطر يعود… وأرض تُنبت وحياة لا تُحكم بهاجرة اضطرارية.