المتحولون

ككاتب مهتم بالشأن العام أجدني أقوم بمهمة المراقب في كل ما يدور حولي من أحداث كبيرة وصغيرة، أسعى قدر جهدي لتحليلها وتفكيكها إلى حروف وكلمات من أجل أن أستوعبها ويتفهمها عقلي البشري المحدود بمقدار نطاقه الفكري، أو بمعنى أدق كما عبر عنه الإمام الغزالي الذي شبه العقل البشري بميزان الذهب الذي يزن الاشياء الصغيرة بدقة معقولة أما اذا وضعنا عليه قطعة كبيرة من الحجر فإنه يفسد لأنه غير مخلوق له؛ وانطلاقا من هذا التفسير المادي المنطقي أرضى بمحدودية قدراتي في العجز عن تفسير أشياء إن تبد لكم تسؤكم، فمن حولنا أشياء وأمور لا ندري لها تفسيرا، تدور من حولنا فلا نملك التقاطها، اللهم لا اعتراض أننا لا نملك مواهب الآخرين الذين " يفهمونها وهي طايرة "، يدعمنا في ذلك حسن النية في الآخرين، فلا نعجل في اتهامهم بأنهم منافقين، متلونين، متحولين، متسلقين، أفاقين، رب لا تجعلنا من أولئك الذين يرمون الناس بالباطل.
نقترب أكثر: نرى كثير من الناس تدور كالذبابات الملونة حول السلطة، تحديدا من في السلطة، يغمرونهم بالقبلات، يلتصقون بالجلباب، على استعداد أن يهبونهم أولادهم خدما، يطاردونهم بإعلانات التهاني والتعازي فحين يموت كلب الملك تمتلأ صفحات الوفيات بالتعازي وحين يموت الملك يختفي المعزين، يناجونهم: أموالنا فداء لكم ـ قد تكون أموالهم مستباحة من آخرين حكومة ومواطنين ـ يدعون لهم دعاء المتسولين ـ ربنا يخليك لمصر ـ يلعقون ، يقبلون الأيادي، الأحذية، يطلقون البخور في حضرتهم، يصنعون الأحجبة لأجل مرضاتهم، وفي لحظة فارقة ـ لحظة الرحيل بالموت أو البعاد عن المنصب ـ يبدأ التحول الرهيب، يبدأ صب اللعنات على المسئول الفاشل، الخائن، العميل، ويبدأ الادعاء: أنا ـ أي المتحول ـ أول من حذرت منه، أنا عارضته، وقد نندهش إذا اكتشفنا أن عم المتحول لم ينطق كلمة واحدة في حضرة المسئول، لم يعارض ولم يهادن ولم يتحفظ حتى، ويزيد اندهاشنا أن عم المتحول قد بدأ على الفور التحول مع الدفة، وأنه بعد أن تأكد من خط سير الاتجاه الجديد سبقه لاستقباله عند ناصيته مهللا مباركا مطلقا الابخرة من نفس قرطاس البخور معلنا على الملأ بلا خجل أنه من دراويش المسئول الجديد، وأنه أول من بشر به وطالب بأعلى صوته من فوق قصره المنيع وربما رشح اسمه للجهات العليا وأنه هو الذي كشف أخطاء المسئول السابق وهو الذي أطاح به، وهو كاذب كذب الذئب من دم ابن يعقوب.
كيف وصلنا إلى هذه الحالة من الأخلاق المتدنية؟ كيف لشخص يحترم نفسه وينظر في المرآة كل صباح ويريد أن ينجو من أن يبصق في وجهه أن يفعل هذا؟.
أعرف أن التسلق والانتهازية والأنا المتضخمة المتورمة التي تجعل الشخص يرى في نفسه ما لا يراه أقرب الناس إليه مهما نافقوه ومهما نفخوا في بالون البارانويا بداخله لأنهم مستفيدون منه، أعرف أنها صفات موجودة بكثرة في عالمنا (التالت)، ولكنه أمر لا يجب أن نلوم عليه صاحب تلك الشخصية وحده، بل للمجتمع الذي ساعده على أن يتواجد في غير موقعه، وللشرذمة المنتفعة التي تنفخ في أوهامه حتى ينفجر لحظة اكتشافه حقيقة نفسه وقدراته وسوءاته وهو سوف ينفجر لا محالة.
المفاجأة أنك تجد هذا النموذج في كل مؤسسة وفي كل مصلحة، بما يضع أيدينا على مرض خطير في المجتمع لابد من استئصاله قبل أن يستشري وقبل أن يصعب علاجه، فالمرض بات يهدد أمن المجتمع، لأنه لو طفى هذا المرض على سطح القيادات، فانه معناه طبقة من الغل والجهل والنفاق والفشل والعداء للموهوبين سوف يغلف السطح وسوف تجدب الأرض ويبور الزرع.
مضطر أن أذكر أن هذا الكلام بمناسبة استقالة حكومة الدكتور الببلاوي وخروج الرجل من السلطة، فخرجت معها أصوات القبح من جحورها في وصلة مكررة من قلة الأصل، حتى أنهم لم ينتبهوا أن رئيس الدولة المحترم المستشار عدلي منصور قدم للحكومة المستقيلة حقها من الثناء والشكر وأنها " عملت في ظروف بالغة الصعوبة"..شكرا للرئيس وشكرا للدكتور الببلاوي واتصور أن خبراته العريضة جعلته يتوقع هذا الجحود وهذا التملق الذي بدأ بعد دقائق من تسمية رئيس الحكومة الجديد الذي سينال نصيبه من الذم عقب نفاذ الرصيد ومغادرة الموقع.
[email protected]