"عفاريت الأسفلت" في إثيوبيا يزهقون أرواح مئات الأشخاص سنويا

لدى الإثيوبيين مقولة دارجة ومعتادة تقول، إذا صحت الترجمة من اللغة المحلية، بإمكانك معرفة متى ستغادر، لكن لا أحد يعلم إن كنت ستعود".
وترد هذه المقولة على لسان كثير من الإثيوبيين وربما ينظر البعض على أنها مبالغة محلية ترد على لسان العامة كحال كثير من الدول؛ لكن حالات الموت المرعبة جراء حوادث الطرق، تعطي هذه المقولة مصداقية عالية، ولكنها مصداقية محزنة للأسف، لاسيما وأنها تحصد أوراح المئات من الإثيوبيين سنويا، فضلا عن أنها تدرج البلاد بين أسوأ دول العالم على صعيد ارتفاع حوادث الطرق بصورة صارخة.
ولا يزال الحادث المروع الذي شهدته أديس أبابا في 31 يوليو الماضي، في موقع يطلق عليه كولفي 18 مازوريا، عالق بأذهان الإثيوبيين ولا يغيب عن ذاكرتهم، فبينما كانت سيدة ورجل، من الباعة الجائلين الذين يفترشون جوانب الطرق لبيع الخضروات وطهي بعض المأكولات المحلية التي تعرف في إثيوبيا "جوليت"، يجلسان أمام عربيتهما المحملة بالبصل والطماطم والبطاطس، وأعواد قصب السكر، وغيرها من البضائع، وكان بجوارهما أطفال وزبائن يتبضعون من العربات، فإذا بشاحنة تظهر فجأة، وقد فقد قائدها السيطرة على عجلة القيادة، لتخرج شاحنته عن حرم الطريق لتدهس تحت عجلاتها جميع البشر على جانب الطريق.
وخلف هذا الحادث المأساوي وراءه 24 ضحية، من بينهم 16 من السيدات المعيلات لأسرهن بدخل ضئيل كن يجمعنه من عملية البيع على الطرقات، كما أصيب 44 شخصا في الحادث المروع الذي هز مشاعر الإثيوبيين بأسرهم.
وعلاوة على تلك الفاجعة، فقد تسبب مشهد انتزاع رفاقهم من جوانب الطرق في ثواني معدودة، في إلقاء المزيد من مشاعر الأسى والحزن في نفوس المجتمع الإثيوبي.
وحادث آخر وقع على الطريق السريع المعروف أديس أداما، وجاء ليعطي شهادة صارخة على مدى بشاعة حوادث المرور في المدينة، ففي وقت مبكر من صباح يوم 18 يناير الماضي، وقع حادث ذهب بأرواح 11 ضحية وخلف 9 مصابين ومثل هذه النوعية من الحوادث التي تحصد المزيد من الأرواح باتت حدثا مكررا ومعهودا في المدينة، وفي مناطق متفرقة ومختلفة من البلاد.
وهناك السائق جيزو سيرا، الذي يعمل سائقا منذ 15 عاما ويحمل رخصة درجة رابعة، وهو متخصص في قيادة الشاحنات الثقيلة، ويعرف الكثير عن أوضاع قيادة السيارات والحوادث على الطرقات في البلاد، لكن هل ستجدي شهادته ومعرفته الواسعة بأبعاد المأساة، وتخفف من وطأة الحوادث المرورية وتنقذ أرواح الضحايا على الطرقات الإثيوبية؟.
ويقول جيزو سيرا "لابد أن يكون المرء حذرا في قيادته، سواء كان ذلك للمسافات الطويلة أو القصيرة، مادام الأمر لا يستغرق سوى ثواني تتسبب في إزهاق روح إنسان أو بتر جزء من جسم إنسان".
ونجا جيزو من العديد من التصادمات وحوادث السقوط أثناء سنوات قيادته للسيارات والشاحنات، ولحسن حظه أنها لم تقض عليه أو تفقده حياته ولم تسبب له ضررا جسيما سواء بالنسبة له أو لغيره.
ويقول جيزو "في أيامنا الراهنة، لابد أن يكون المرء أكثر حذرا وعناية، لاسيما وأن الأمور باتت أسرع وأسرع مما سلف، كما أنها أسرع في حصد الأرواح وإلحاق الخسائر".
وتقول منظمة الصحة العالمية في تقريرها الصادر في هذا الصدد خلال شهر أبريل 2014، إن حوادث الطرق تكبد إثيوبيا خسائر في الأرواح بمعدل 37 شخصا من بين كل 100 ألف إثيوبي، وهذا يشكل ما نسبته 2.77 % من حالات الوفاة في البلاد، ليضع إثيوبيا في المرتبة الـ(12) على مستوى العالم.
وبالنسبة للدولة الجارة كينيا يصل معدل حوادث الطرق فيها، حسبما أوردته منظمة الصحة في التقرير نفسه، إلى 19 شخصا لكل 100 ألف شخص، بينما يصل ذلك المعدل إلى شخصين فقط من بين كل 100 ألف شخص في بريطانيا، ونتيجة لتلك المعدلات الصارخة في حوادث الطرق بإثيوبيا، فقد تضمنت الخطة الخمسية الإثيوبية للنمو والتحول، التي تنتهي في 2015، من بين أهدافها، العمل على خفض عدد الوفيات في حوادث الطرق بنسبة 80 %.
وأدى تصاعد القلق بشأن حوادث الطرق في البلاد إلى إرغام بعض العاملين في قطاع النقل على التركيز على آليات وتقنيات تجنب الحوادث أثناء قيادة المركبات على الطرق، وهو ما يطلق عليه تقنيات "القيادة الدفاعية"، إضافة إلى آليات تأمين ما بعد الحوادث، وكانت إحدى الأدوات المؤسسية التي استخدمت في هذا الإطار من خلال "جمعية سائقي شاحنات النقل الثقيل" EHTDA "التي تولت تدريب أعضائها وتحفيزهم على الخضوع لبوالص تأمين على الحياة.
ويقول المدير العام لجمعية EDTHA، كاساهون جيزاو، "إننا نقدم تدريبا على القيادة المتحفظة الدفاعية لأعضائنا، وننصحهم جميعا بأن يقومون بإجراء تغطية تأمينية على الحياة بما يدعم عائلاتهم، التي تترك في غالبها عاجزة عن مواجهة الحياة في حال فقدانهم في حوادث الطرق".
وقامت الجمعية بتدريب حوالي 1000 من بين 4 آلاف عضو نشط في الجمعية، وقام 200 منهم بشراء بوالص تأمين على حياتهم، وتتولى الجمعية من جانبها أعباء التدريب المخصصة للقيادة الدفاعية.
ويشير مدير الجمعية إلى أن خطوات التدريب مقيدة نظرا لضعف القدرة المالية، فالعضو يسدد 1000 بر (بما يعادل نحو 48 دولارا أمريكيا) في صورة اشتراك العضوية السنوي، إضافة إلى 200 بر تأمين على الحياة، وهى مبالغ ضئيلة إذا قورنت بدخولهم (الدولار يساوي 20.83 بر إثيوبي).
وسائق الشاحنات المخضرم جيزو يعتقد أن تغيير إجراءات الحصول على ترخيص قيادة السيارات في إثيوبيا من الطريقة العامة السابقة إلى نظام الرخص المتخصصة وقصر مدة إصدار رخصة القيادة، ساهمت في تصاعد عدد حوادث الطرق في البلاد.
ويتفق مع هذا الرأي رئيس جمعية EHTDA، كاساهون، الذي يرى أن التحول عن النظام السابق لاستخراج رخص القيادة أدى إلى أنه بات هناك فتيان صغيرة جدا وغير مؤهلة أو مدربة تجلس خلف عجلة القيادة لشاحنات ومركبات ثقيلة، التي تستلزم في العادة ست سنوات من التدريب حتى يتأهل لقيادتها السائقون وفق نظام التراخيص السابق.
ويقول كاساهون "في السابق، كان على السائق أن يخضع لعدة مراحل من التأهيل والخبرة كي يتمكن من الحصول على رخصة القيادة من الدرجة الرابعة أو الخامسة، لكن وفق النظام المطبق الآن، يستطيع هؤلاء الحصول على التراخيص في غضون ستة أشهر".
وفي ظل نظام تراخيص قيادة السيارات القديم في إثيوبيا، كان ينبغي على السائقين المرور عبر مراحل مختلفة فالسائق كان يطلب منه الحصول على رخصة درجة ثانية، وهذا يستغرق على الأقل سنة لكي يصل إلى رخصة الدرجة الثالثة، وهكذا كان يتعين عليه أن يقضي سنة كحد أدنى بين الدرجة والتالية لها وكان المرء ينبغي عليه الانتظار من 5 إلى 6 أشهر لكي يحصل على رخصة الدرجة الخامسة المخصصة لقيادة الشاحنات والناقلات العملاقة.
من جانبه، يدافع رئيس فريق العمل الخاص بالإدارة المرورية وأمن الطرق، التابع لمكتب النقل في أديس أبابا، هاجيري هايلو، في حديث لمجلة "فورتشن" قائلا "لقد طبق هذا النظام لكي يتم جمع المتخصصين والمحترفين في ميدان واحد".
وتشير أرقام مكتب النقل في أديس أبابا إلى أن 90% من حوادث الطرق في العاصمة كان السبب فيها القيادة الخاطئة من جانب السائق فالمشاة أنفسهم كانوا مسئولين عن نسبة 4% من الحوادث، إضافة إلى مسببات أخرى يعود بعضها إلى مشكلات استخدام الطرق، وعوامل الطقس والمناخ، ومستوى الأداء الفني للمركبات.
لكن هاجيري يفجر قنبلة جديدة قائلا "البيانات تؤكد أن أغلب الحوادث التي حدثت كانت على طرق مستقيمة وملائمة علاوة على أن أحوال الطقس كانت جيدة".
وفي ضوء تصاعد حدة حوادث الطرق في مدينة أديس أبابا، بادرت إدارة شركة "توتال" النفطية العاملة في إثيوبيا، بتزويد 10 مدارس ابتدائية بصناديق تتضمن عددا من مواد خاصة بتعليم السلامة المرورية تلك المواد تتضمن كتبا وعلامات مرورية وأضواء، وكتيبات قواعد السلامة المرورية، والتي اشترتها توتتال بنحو 100 ألف بر كمنحة صندوق الطفل في إثيوبيا.
ومن العناصر الأخرى التي برزت بين مسببات تصاعد حوادث الطرق في إثيوبيا، مستوى جودة مدارس تدريب قيادة السيارات في البلاد.
ويقول كاساهون إن "نمط التدريب ومتطلباته يتعين إعادة تقويمه، فالتدريب يتم في طرق فردية مغلقة، ثم ينقل السائقون للقيادة داخل المدن دون تمهيد، بعض السائقين يصل بهم الأمر إلى الجهل بطبيعة المركبة التي يركبونها وقدراتها".
وبالرغم من اعترافه بأن هناك ثغرات في مدارس التدريب على قيادة السيارات، يقول هاجيري إن المكتب يتابع بعناية طرق التدريب وآلياته وأفضل استخدام للطرق والأساليب التي أعدها المكتب.
وقال هاجيري "نقدم دعما (للمكاتب) مثل توزيع أشرطة مصورة وتعليمية، قوائم تعليم، وأفلام من أجل زيادة تعريف السائقين بما سيواجهونه في عالم القيادة الواقعية".
وبالانتقال إلى جانب آخر من الأزمة في إثيوبيا، يرد مالك ومدير مدرسة كيرتينا لتدريب السائقين، جيبريهيوت بيرهي، قائلا إن مدرسته، التي دخلت هذا المجال منذ نوفمبر عام 2005، تقدم برنامجا يتضمن 13 يوما من التدريب النظري، و30 ساعة من التدريب العملي، لأولئك الراغبين في قيادة السيارات الخاصة، أما سائقو شاحنات البضائع الصلبة والجافة، فيحصلون على 15 يوما من التدريب النظري و35 ساعة تدريب عملية.
ويؤكد جيبريهيوت أن المدراس ليس بها دروسا مخصصة لأمن الطرق، لكن مثل هذه الأمور يتم تلقينها للمتدربين من السائقين ضمن دروس أخلاقيات القيادة، التي تشتمل على استعراض مسببات حوادث المرور والطرق، وطرق تلافي الحوادث، والالتزام الصارم بقوانين وإرشادات المرور والإشارات.
ولدى اختبار المتدربين، تبلغ المعاهد التدريبية أن الحصول على 70%، يعتبر قد اجتاز الاختبارات، لكنها تخبرهم أن في الاختبار الحقيقي يكون مستوى اجتياز الاختبارات الحصول على 74%.
ورغم حديث الأوساط الإثيوبية المختلفة أن هناك تشديدا من جانب السلطات على مدارس التدريب وأنماط التدريب الوقائية، فإن معدلات حوادث الطرق تتصاعد بصورة مخيفة.
وتشير مفوضية الشرطة في أديس أبابا إلى أن حالات الوفاة بسبب حوادث الطرق في عام 2013/ 2014، بلغت 391 حالة وفاة بالإضافة إلى 1484 حالة إصابة جسيمة، و1128 إصابة خفيفة.
وعلى صعيد البيانات الخاصة بأعمار السائقين المرتكبين لحوادث الطرق في العاصمة الإثيوبية، فقد تبين أن ثلاث حالات قتل تسبب فيها سائقون تقل أعمارهم عن 18 عاما، و172 حالة وفاة تسبب فيها سائقون بين 18 و30 عاما، و137 حادثة وفاة لسائقين بين 31 و50 عاما و51 حالة وفاة لسائقين أعمارهم تزيد على 51 عاما.
وكشفت البيانات أن السائقين الذكور تسببوا في 361 حادثة وفاة، بينما تسببت السائقات النساء في حالتي وفاة فقط، وبقيت 28 حادثة وفاة لم يتم التعرف على قائد المركبة التي ارتكبت الحادث.
وبدا منحنى حوادث الطرق في ازدياد مطرد خلال السنوات الأخيرة في مدينة أديس أبابا، وتشير البيانات إلى أن عدد الحوادث ارتفع من 2067 في عام 2010/ 2011، ليصل إلى 2379 في عام 2011/ 2012، ثم إلى 2966 في 2012/ 2013، لتقفز إلى 3003 حوادث طرق في عام 2013/ 2014.
وتستمر حوادث الطرق في إهدار أرواح الإثيوبيين بصورة يومية؛ وهو الأمر الذي دفع كثيرين إلى دعوة الجهات الرسمية للتحرك العاجل لمواجهة المشكلة التي أدرجت البلاد ضمن الأسوأ على مستوى العالم.
من جانبها، تعهدت السلطات الإثيوبية بالعمل على مواجهة المشكلة لتقليص حوادث الطرق وعدد الوفيات والإصابات الناجمة عنها، وشرع مكتب النقل في أديس أبابا بالتعاون مع إدارة العاصمة في إجراء حملات مراقبة متنقلة للطرق؛ للتعرف على المشكلات المرورية وعلاجها أولا بأول.
ومن المقرر إعادة هيكلة وإنشاء وكالة إدارة المرور، التي كانت تابعة لمكتب النقل في أديس أبابا؛ للعمل على تسهيل مراقبة المرور وتيسير التدفق المروري في الطرق الإثيوبية.