"الانتحار القومى" معنى له دلالة

كلما ترامت على مسامعنا كلمة الانتحار نصاب بالدهشة والارتباك والحيرة من أمر الشخص المنتحر ولماذا أقدم على التضحية بروحه وجسده، وما هي الأسباب التى جعلته لا يستمر فى البقاء معنا فى الحياة؟ وما هي الوسيلة التى انتحر بها.
كيف يضحى الإنسان بالملكية الأولى التى وهبها الله له، فالروح والجسد منذ القدم محور تنازع بين الإنسان وبين مجتمعه، فتارة اعتبر الجسد منتميا للمجموعة، أى من ضمن ملكية المجتمع، وتارة ملكية للمولى عز وجل أو للسلطة الدنيوية، إلا أن الحقيقة واضحة، فالجسد ملك فكر صاحبه فقط، صحيح أن الروح من أمر المولى عز وجل، إلا أن القرار بالتصرف والإدارة يعود لكل إنسان بمفرده،
ومن هنا خرجت علينا فكرة مصطلح تدمير الذات وأصبح الإنسان يقبل على الانتحار مهما حاول المحيطون به إقناعه دينيا أو من خلال سلطة قضائية وقانونية.
فالانتحار فى أبسط معانيه هو قرار ذاتى بتدمير الذات واستقالة واضحة عن قصد من الحياة سواء بطرق مباشرة واضحة أو غير مباشرة، ولكن العزم والنية مبيتة على الأقدام على هذا الفعل رفضا من الشخص الراغب فى إنهاء حياته الاستمرار فى الوجود، رافضا بذلك واقعا نفسيا فى أعماق نفسه وتكوينه الذاتى أو انعكاس لظروف بيئيه خارجية لا تقوى ذاته على تحملها أو التفاعل معها، ونجد أن الانتحار مازال وسيظل ظاهرة نفسية اجتماعية بيئية أدبية بيولوجية ومحط أنظار العلماء والمفسرين.
ومنذ أيام سابقة أثناء سماعى لحديث الرئيس عبد الفتاح السيسى، لفت انتباهى مصطلح الانتحار القومى، وتوقفت عند تلك العبارة الجديدة كمتخصص فى العلوم الإنسانية والنفسية، وبدأت أبحث فى دلالات المصطلح وفحواه والتوقيت الذى قيل فيه، وبدأت أربط مصطلح الانتحار القومى بالأوضاع السياسية والنفسية والاجتماعية التى يمر بها بلدنا الغالى مصر وبقية بلدان الوطن العربى والأحداث التى يمر بها وطننا العربى وما يتبعها من أحداث اقتصادية وعدم استقرار عام.
ووجدت أن المصطلح ينطبق تماما على ما آلت اليه الأمور فى مصر وعالمنا العربى، وبدأت فى التساؤل هل نحن نعيش حقا مرحلة الانتحار القومى الجماعى؟ وقمت بربط هذا المصطلح "الانتحار القومى" بالعلامات الدالة على الانتحار لدى المقدم على الانتحار.
ولكن دعونا فى تلك المرحلة نربطها بالمجتمعات المقدمة على الانتحار الجماعى، ومنها العلامات المباشرة فى الكلام، والتى أصبحنا نتحدث بها فى حديثنا اليومى سواء على شبكات التواصل الاجتماعى أو من خلال برامج التوك شو أو من خلال الجرائد السوداوية، حيث نجد لغة الحوار أصبحت لغه سوداوية عبثية عدمية أو دينية غريبة أو استنتاجا خاطئا للأحداث والمواقف المستقبلية أو الحديث عن كل شيء أو لا شيء، أيضا الكلام التعجيزى "ما فيش فايدة، "مستحيل"، أصبحنا فاشلين، أصبحنا لا نساوى شيئا، وغيرها من الكلمات المحبطة التى تنم عن فقدان الأمل والتشاؤم من اليوم والغد والاستحاله فى كل شيء.
وأجد أن كثيرا من العبارات التى أصبحنا نتحدث بها إعلاميا وبين حياة المواطنين كلمات تنم عن فقدان الأمل واليأس من الحياة وكأنها عدوى جماعية ينساق وراءها جموع الشعب المصرى دون إعمال للعقل أو المنطق، بل يغلب عليها التفكير الانفعالى السلبي،
وهناك أيضا العلامات غير المباشرة فى الكلام من خلال التضخيم والتهويل أننا فى أحسن حال وأن كل شيء على ما يرام، الاهتمام بالأقوال وليس الأفعال والابتعاد عن المنطق والقدرات الواقعية للأفراد، ونسبح فى الخيالات والأوهام دون الاعتماد على المقدرات والأدوات المنطقية لتحقيق الحياة الكريمة، فيصبح المجتمع مفرطا فى تفاؤله ويبتعد عن إعمال العقل والتسلح بالعمل والاجتهاد والإتقان والتحلى بالصبر وقوة الإرادة.
كما أن هناك علامات تدل على السقوط فى دائرة الانتحار وهو علامات سلوكية، فالسلوك مرآة الشخصية، ومن خلاله نفك شيفرة التفكير والعقل لدى الشخص كيف يفكر وما هو محتواه العقلى من خلال كلامه وسلوكه، ونجد أن الانعزال والانطواء على الذات من سمات الأفراد والمجتمعات التى يطلق عليها متخلفة عن الآخرين أو عن السير للأمام مجتمعات منغلقة لا تسمع غير صدى صوتها فقط مجتمعات غير منفتحة على الآخر بما يفكر وبما يسلك كيف تتطور.
وعندما ننظر إلى سلوكنا، نجد أننا أصبحنا نشكك فى الآخر، ونؤول سلوكه وأقواله أصبحنا شعوبا مستهلكة وليست منتجة، نفقد الإيمان بإنتاجنا وصناعتنا وأداءنا بوجه عام نفقد الإيمان بكل ما نقوم به.
ونلاحظ أن المكتئب الذى يقدم على الانتحار يفقد الثقة والإيمان بقدراته ويرتبك فى أدائه سواء فى العمل إذا كان مازال يزاول مهنة أو أثناء تواصله الشخصى تجده ينسحب مجتمعيا ينطوى على نفسه يتباطأ ويتكاسل فى أداء الأعمال، أداؤه منخفض، فلنتخيل جميعا إذا كان هذا السلوك نابعا من الأفراد الذين يكونون مجتمعا، هل ننتظر من تلك الجماعة، أى إنتاج أو أى عمل مجد مجتمع قرر الموت بالبطيء، مجتمع أصبح تفكيره تشاؤميا ومشاعره سلبية وسلوكه متباطئا وأداؤه منخفضا، أصبح لديه العديد من الأمراض الاجتماعية والنفسية مثل الإدمان، والتحرش بجميع أنواعه وأشكاله، والفساد آفات اجتماعية ونفسية كفيلة بانتحار قومى لمجتمع بأسره.
وخير ما اختتم به حديثى هو قول الله عز وجل "وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" {البقرة:195}.