الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

النبي الإنسان


كان الصحابة الأوائل على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يدركون في تعاملهم معه أنه نبي وأنه بشر كذلك، فيعطون للنبوة قدرها من الوعي والفهم لأنهم يعلمون عصمته – كباقي الأنبياء والرسل – فيما ينقل عن رب العزة وما يتنزل عليه من وحي السماء، كما كانوا يعطون للإنسانية فيه قدرها من الإدراك والفهم كذلك، لأنهم يعلمون أنه إنسان يحزن ويفرح ويجوع ويعطش وينام ويصحو ويمرض وينشط، والأهم من ذلك كله أنه يفكر ويناقش ويشاورهم في الأمر.

ذكرت كتب السيرة أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في صلح الحديبية قال لأصحابه:- "قُومُوا فَانْحَرُوا، ثُمَّ احْلِقُوا"، فتباطأ أصحابه لعدم رضاهم عن بنود الصلح، فحزن النبي ودخل على زوجته أم سلمة التي كانت معه في تلك العُمرة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت له "يا نبي الله أتحبُّ ذلك؟ اخرج ثم لا تكلِّم أحدًا منهم كلمة حتى تنحر بُدْنَك وتدعو حالقك فيحلقك". فخرج فلم يكلِّم أحدًا منهم حتى فعل ذلك؛ فنحر وحلق، فلمَّا رأَى أصحابه ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضًا.

لم تكن أم سلمة –زوج رسول الله – يأتيها وحي من السماء كي تخبره بالأمر، كما لم يتنزل الوحي على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليخبره بما يفعل وكيف يفعل إزاء موقف المسلمين في الحديبية، بل هو الرأي الذي استمع إليه النبي من زوجته واستحسنه وأخذ به، هنا يقدم لنا الرسول نموذجًا للإنسان الذي يناقش ويتفاوض ويقرر، ثم لا يلقى قراره رضى في نفوس أصحابه، فيلجأ لزوجته، فتشير عليه، فيفعل،  فيحذوا صحابته حذوه، وتنحل العقدة. إنها حالة إنسانيه بامتياز، تتوارى فيها النبوة بقدر ما تتقدم فيها بشرية الرسول.

في العام الثاني للهجرة حينما خرج رسول الله لملاقاة قريش ونزل والمسلمون عند أدنى ماء من مياه بدر، قال له الصحابي الحباب بن المنذر:- "يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل؟ أمنزلًا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة، قال: يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل، فانهض يا رسول الله بالناس".

أراد الصحابي أن يفرق بين "الوحي" الذي لا يُقبلُ فيه الجدال و"الرأي" الذي يحتمل النقاش، فلما تبين له أنه "الرأي"، أدلى دلوه بارتياح، واستمع له الرسول بإنصات، ثم غير وجهته.

لم يستنكف رسول الله أن ينزل عند رأي صاحبه، بل رأى أن يغير خطته لتحقيق المصلحة والقصد الذي يبتغيه.

يقول صلى الله عليه وسلم- وهو أعدل الناس -: "إنكم تختصمون إليً، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه فلا يأخذ منه شيئًا، فإنما أقضي له قطعة من نار".

كان هذا هو شأن النبي مع الناس، إنسان يفكر ويشاور أصحابه وأهل بيته ويختار ويستصوب رأيًا - غير ما عنده - ويستنكر آخر، ولعل معجزة الرسول العظيم أنه جمع بين نبوته وإتصاله بالوحي وبين بشريته المطلقة كإنسان، إنسانًا في خدمة أهله، يحلب شاته بيده، ويخصف نعله، ويخيط ثوبه ويعدل بين نسائه ويبتسم في وجوه الناس ويداعب الأطفال ويحسن إلى الخدم ويأخذ بالأسباب، ويناقش أصحابه فيختلف معهم، ويختلفون معه.

لم يشع عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه أتى بمعجزات خارقة أو غير مألوفة، مثلما كان المسيح عليه السلام (يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص ويشفي المرضى والعاجزين ويمشي فوق الماء وغير ذلك". فالرسول اشتهر في صباه وشبابه بالصدق والأمانة، أكثر ما كان يشاع عنه ويُعرف به هو صدقه وأمانته وحسن خلقه.. حينما آمن به اللبنة الأولى من المسلمين آمنوا به لثقتهم في صدقه، ولسماحة المنهج الذي يدعو إليه، ولاتساق ما يدعو به مع ما يميزه كإنسان - الحق والعدل والخير والصدق.

في حادثة الإسراء والمعراج مثلًا -وهي معجزة لم يرها أحد - كذبه الناس كما نعلم، إلا من آمن به، حينما قال المشركون لأبي بكر: "يزعم صاحبك أنه أُسري به إلى بيت المقدس ثم عُرج به إلى السموات السبع، قال أبو بكر:- "إن قالها فقد صدق، أصدقه فيما أكثر من ذلك، (أصدقه في خبر السماء يأتيه في غدوة أو روحة)"، فلقبه الرسول بـ"الصديق" وقال فيه: "ما فضلكم أبو بكر بفضل صوم ولا صلاة، ولكن بشيء وقر في قلبه".

أبو بكر وكل من آمن بالرسول لم ير جبريل رأي العين، ولم ير كيف يتنزل الوحي ولم يكن مع الرسول ليلة أُسري به وعرج به إلى السماء، لم ير معجزة تنقله من حيز الكفر إلى حيز الإيمان، هو فقط آمن به وصدقه، آمن بالرجل الذي عرفه وصاحبه، آمن بالإنسان الكامل الذي فيه.

إن المساحة التي يتجلى فيها النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) كإنسان - وليس كنبي يوحى إليه من السماء- خليقة أن تسترعي انتباهنا، كي نستشرف فيها ملامح الإنسان الذي هُيئ للنبوة وهو يحمل بين جنبيه كل ما في النفس البشرية من طباع، ولعل كتب السيرة التي زخرت ببيان ما لتلك الطباع من أثر في حياة النبي وحياة المسلمين تغنينا عن ذكرها في تلك المساحة الضيقة، والتي أوجزها الإمام البوصيري في قصيدته الشهيرة "بردة المديح" فقال: - "فمبلغ العلم فيه أنه بشر.. وأنه خير خلق الله كلهم".
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط