نحو خطاب إعلامي جديد

إن الممارسات الخطابية الإعلامية مؤخرا دارت حولها العديد من الآراء ما بين المؤيد والمعارض كردة فعل للمنهجية المتبعة قِبل رواد برامجها وممارسيها، وذلك لما أفرزته من توظيف لغوي جديد والاعتماد على علامات غير اللغوية باتت لها دورها التواصلي مع المشاهد، والتي أفضت إلى توصيفها بخروجها عن أطر الخطاب الإعلامي المحافظ والكلاسيكي، الأمر الذي بدا في ظاهره انحرافا لغويا وخروجا عن أدبيات الخطاب الإعلامي بيد أن في باطنه تكمن القوة والهيمنة، ولعل هذا التناقض ما أثار استغراب أصحاب ثقافة النخبة في الآونة الأخيرة وخاصة أثناء التغطية الإعلامية للأحداث المتتابعة لثورات الربيع العربي.
فلم يكن الخطاب الإعلامي بعامة والبرامج الحوارية بخاصة ملتزمة بالنمط الحواري الكلاسيكي المُحلى بالألفاظ المنتخبة من المعجم العربي الفصيح والعامي بما يتفق والذوق العام لأصحاب التوجه الثقافي الفصيح كما هو معتاد في أدبيات الخطاب الإعلامي العربي بعامة والمصري بخاصة، الأمر الذي بات مغايرا لما هو واقع في فترات الربيع العربي الذي تحلى مضمونة بألفاظ وليدة العشوائية التي عاشتها المناطق الفقيرة والأكثر تفاعلا مع مسارات التجمعات الشعبية، وبات إغفالا وتهميش هذه التجمعات الشعبية تقصيرا وتقاصرا.
لتأتي هذه الفترة الزمنية وما لزمها من أحداث مؤكدة على أن الثقافة الشفهية هي اللغة المعتمدة في الحوار والتوجيه، أما لغة الخاصة والنخب فلم يكن لها محل من الإعراب في ضمير السواد الأعظم من المجتمعات العربية ولم يعد تداولها لغة تواصلية في آن إلا من خلال ما ينقل عبرالنشرات الإخبارية التي تأتي على رأس الساعة.
ولم يكن غريبا أن تأتي أغلب البرامج الحوارية الإعلامية منحازة إلى الثقافة الشفهية عن الثقافة النخبوية الكتابية؛ ذلك لما أثبتته من جدارة في التواصل المباشر مع اللاشعور الجمعي في آن دون حوائل التزين والتجمل.
إن الثقافة الشفهية هي البيئة الأولى التي نشأ عليها الفكر العربيمنذ القدم، وما زالت تنو وتترعرع على أنقاض الثقافة الكتابية في كثير من الرقع العربية نتاج روافد الفقر أو تفشي الجهل أو كلاهما معا أو ربما لعدم قدرة الثقافة الكتابية على تلبية ميول وتطلعات الضمير الجمعي للشخصية العربية في آن، خاصة في الأحياء الشعبية التي آثرت الشفهية على الكتابية وطورت منها وجعلتها المحرك الأقوى لها.
الأمر الذي جعل من الشفهية وممارستها المهيمن الأول علىى البيئة والثقافة العربية طوعاو إرغاما، ليصير المتلقي الشفهي والعامي على وجه الخصوص مندوبا عن السواد الأعظم من المتلقين في كل النوادي الفكرية.
الأمر الذي دفع أصحاب المنابر الإعلامية بشقية الدينية منها و المدنية إلى تلقف هذه النتيجة والعمل عليها بعد أن ترسخ في اليقين أن الثقافة الشفهية هي الآلية الأجدر بالمخاطبة والتواصل والإقناع مع المتلقي؛ فجاءت الممارسات الإعلامية صدى لهذا المنطلق.
وربما تكشف لنا الممارسات الإعلامية الخطابية في فترات الربيع العربي عن العديد من المظاهر التي تزيح الحجبة عن علة هيمنة الثقافة الشفهية على الثقافة الكتابية، واللجوء إليها باعتبارها الخيار الأفضل وفرس الرهان فيدائرة الاستقطاب الإعلامي، وقد بدا ذلك من خلال تقارب المنهجية المتبعة شكلا ومضمونا في البرامج الحوارية على اختلاف توجهات منابرها التي لا تكاد تخلو من إطناب لبعض العبارات والجمل التي سادت وذاع انتشارها والدائرة حول ترسخ أثر القمع الاجتماعي والديني والسياسي في ضمير المتلقي وإشعاره فيي ذاته بالقدرية، واللعب على استرجاع ما هو فائت من أحداث تذكر المتلقي بمعاناته وآلامه وكأنه مسخر يدفع حياته دفعا في سبيل النخبة والمتحكمة والمسيرة للأمور.
هذه بعض من التوجهات الشفهية الاستقطابية القادرة على الجذب والتوجيه؛ والتي جاءت من خلال ممارسات لآليات عدة منها التراث الشعبي الذي يعتبر من الآليات الحجاجية المعتمدة للتأثير على المتلقي، فلم تكن الأمثال العامية التراثية والإشارات غير اللغوية وإيماءاتها والعبارات الشعبية المتداولة والأكثر انتشارا بين العوام دربا من دروب السذاجة الخطابية ولا لونا من ألوان الافتقار التواصلي بل أثبتت يقينا بأنها آلية جاذبة ودافعة إلى انصهار الإعلامي بضمير المتلقي لتوافق الفكر والثقافة الرابطة بينهما، بعد أن صارت المادة الإعلامية وفق أدبيات المتلقي وبيئته الثقافية الشفهية لونا من ألوان الخطب الدائرة على المقاهي أو حلقة نقاش تدار على مطالع الطريق في الأحياء الشعبية.
وعلى الرغم من افتقاد الممارسات الإعلامية للكثير من روافدها النخبوية وانحيازها إلى الثقافة الشعبية الشفهية، إلا أن النتيجة المرئية على أرض الواقع تبرهن على ما حققته هذه البرامج الحوارية من مكتسبات دليلها ارتفاع نسبة مشاهديها ومريديها، فضلا عن المكتسبات الإعلانية الممهورة بميقاتها.
الأمر الذي انبنى عليه فتح أبواب النقد والنقض على السواء للممارسات الإعلامية في آن، وجاءت فاتحة إلى حتمية النظر بعين الاعتبار بل والتمحيص إلى أثر الخطاب الشفهي وروافده الثقافية على توجه الشعوب وميولهم وتوجهاتهم.