شهدت الساحة الدولية تطوراً لافتاً في مسار العلاقات الروسية – الأمريكية بعد أن كشفت عدد من المؤسسات البحثية العالمية عن أن واشنطن ألغت قمة كانت مقررة بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين في العاصمة المجرية بودابست، وذلك إثر تلقيها مذكرة متشددة من موسكو تضمنت مجموعة من المطالب التي وصفتها الدوائر الأمريكية بـ”غير القابلة للنقاش”. والتي تتمحور حول المواقف الروسية الثابتة بشأن ضرورة إنهاء الحرب في أوكرانيا وفق شروط تضمن لروسيا أمنها القومي، وتفرض على كييف تقديم تنازلات إقليمية جوهرية، إلى جانب خفض كبير في قواتها المسلحة، وضمانات قاطعة بعدم انضمامها إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) ومن غير المرجح أن تقدم روسيا تنازلات كبيرة بشأن هذه النقاط، باعتبارها تمثل جوهر استراتيجيتها الأمنية منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية. ويبدو أن موسكو تراهن على توازن جديد للقوى في أوروبا، يفرض على واشنطن الاعتراف بمناطق نفوذها التقليدية ويأتي هذا التطور بعد أيام فقط من مؤشرات بدت فيها واشنطن وكأنها تميل إلى إبداء مرونة نسبية تجاه موسكو، ولا سيما عقب تعليق خطط تسليح كييف بصواريخ “توماهوك” بعيدة المدى.
وبالتزامن، هناك تقديرات عدة تتناول استخدام روسيا تكتيكات متنوعة خلال الأشهر الأخيرة يتمثل الشق الأول منها في توظيف صاروخاً مجنحاً أرضي الإطلاق من طراز 9729، وهو السلاح الذي كان أحد الأسباب الخفية وراء انسحاب إدارة ترامب من معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى عام 2019. ووفقاً لتصريحات وزير الخارجية الأوكراني، فقد استخدمت موسكو هذا الصاروخ أكثر من 23 مرة منذ أغسطس الماضي، الأمر الذي يعكس تصعيداً نوعياً في أدوات الحرب الروسية. ويتميز هذا الصاروخ بمدى يصل إلى 2500 كيلومتر، ويمكن تزويده برؤوس تقليدية أو نووية، ما يجعله ورقة ضغط استراتيجية بيد موسكو في مواجهة أوروبا والولايات المتحدة.
إن استخدام هذا النوع من الصواريخ يحمل دلالات متعددة، أبرزها أن روسيا تسعى إلى توسيع نطاق قدرتها على الضربات بعيدة المدى، وإرسال رسائل ردع واضحة إلى أوروبا التي ما زالت تقدم الدعم العسكري لأوكرانيا. كما أن تصاعد وتيرة استخدام هذه الأسلحة في المرحلة الأخيرة قد يعكس محاولة روسية للضغط على الغرب قبيل أي مسار تفاوضي محتمل، وذلك من خلال رفع كلفة المواجهة العسكرية وتوسيع خيارات الردع. إضافة إلى ذلك، يتيح الصاروخ لروسيا تنويع مسارات الهجوم وتعقيد مهمة الدفاعات الجوية الأوكرانية، فضلاً عن إمكانية إطلاقه من عمق الأراضي الروسية بما يحافظ على أمان مواقعها القتالية.
فيما يتمثل الشق الثاني في إعلان روسيا في خطوة وُصفت بأنها تحول نوعي في ميزان القوى العالمي، عن نجاح اختبار صاروخ كروز باليستي يعمل بالطاقة النووية يحمل اسم “بوريفيستنيك”، وهو سلاح قال عنه الرئيس فلاديمير بوتين إنه “لا يقهر” أمام الدفاعات الصاروخية الحالية والمستقبلية. وجاء هذا الإعلان في توقيت بالغ الدقة، إذ استمر الصاروخ في التحليق نحو 15 ساعة متواصلة، قاطعًا مسافة تبلغ 14 ألف كيلومتر، ونفذ خلالها مناورات رأسية وأفقية معقدة أظهرت قدراته العالية على تفادي أنظمة الدفاع الجوي والطائرات، وبالتالي فهو يعد بمثابة رسالة سياسية واستراتيجية موجهة إلى الغرب بأن روسيا لا تزال قادرة على الابتكار العسكري واستعادة زمام الردع النووي في مواجهة الولايات المتحدة.
ومع محاولة استقراء مقومات الصاروخ الذي بدأ تطويره منذ عام 2001 وكُشف عنه لأول مرة عام 2018 فهو يمثل نتاج مشروع روسي يهدف إلى تجاوز أنظمة الدفاع الصاروخي الأمريكية التي تطورت بعد انسحاب واشنطن من معاهدة الحد من هذه الأنظمة. ويعمل “بوريفيستنيك” بمحرك نووي مصغر يمنحه مدى طيران شبه غير محدود، وقدرة على المناورة في مسارات يصعب التنبؤ بها، وارتفاع طيران منخفض يتراوح بين 50 و100 متر، ما يجعل رصده بالرادار شبه مستحيل. كما أن الدفع النووي يمنحه ميزة التحليق لفترات طويلة قبل ضرب الهدف، وهو ما يمنح روسيا عنصر المفاجأة والمرونة العملياتية في حال استخدامه في أي صراع مستقبلي.
وعليه فالإعلان الروسي لم يأتِ بمعزل عن سياق سياسي متشابك. فبينما كانت الأنظار تتجه إلى احتمالية عقد قمة بين الرئيسين فلاديمير بوتين ودونالد ترامب في بودابست لمناقشة الأزمة الأوكرانية، جاء فشل عقد القمة، بالتزامن مع إعلان اختبار الصاروخ وإجراء مناورات نووية تحت إشراف بوتين، ليعكس تصعيدًا مقصودًا في اللهجة الروسية تجاه واشنطن. هذا التصعيد تزامن كذلك مع فرض الولايات المتحدة عقوبات جديدة على شركتين من أكبر شركات النفط الروسية، ما أضفى على الإعلان بعدًا راسخاً مفاده أن موسكو لن ترضخ للضغوط الاقتصادية، وأنها تمتلك أوراق قوة استراتيجية قادرة على تغيير موازين اللعبة.
وفي موازاة هذا التصعيد الروسي، أعلنت الولايات المتحدة تقليص وجودها العسكري على الجناح الشرقي لحلف الناتو، وهو ما أكده بيان صادر عن قيادة الجيش الأمريكي في أوروبا وإفريقيا، مشيراً إلى أن لواء المشاة الثاني من الفرقة 101 المحمولة جواً سيعود إلى قواعده في ولاية كنتاكي، دون أن يتم تدوير قوات جديدة بديلة في أوروبا. هذا القرار، وإن كان جزءاً من خطة إعادة الانتشار الأمريكية، فإنه أثار قلقاً متزايداً داخل أوروبا، خاصة في ظل التوترات الأمنية المتصاعدة على الحدود مع بيلاروسيا وروسيا.
ورغم تأكيد واشنطن أن تقليص وجودها لا يعني بأي حال تراجع التزامها تجاه أمن أوروبا أو حلف الناتو، فإن العواصم الأوروبية ترى في القرار مؤشراً مقلقاً على احتمال انكفاء أمريكي تدريجي عن مسرح المواجهة الأوروبية، ما قد يترك فراغاً أمنياً تحاول موسكو استغلاله. وربما يدفع هذا الوضع الاتحاد الأوروبي إلى تسريع خطواته نحو بناء قدراته الدفاعية الذاتية، إلا أن غياب المظلة الأمريكية يظل يمثل تحدياً استراتيجياً يصعب تجاوزه في المدى القريب.
ختاما، يمكن القول إن سلسلة التطورات الأخيرة بداية من المذكرة الروسية المتشددة، إلى تصعيد استخدام الأسلحة بعيدة المدى، وصولاً إلى تقليص الوجود العسكري الأمريكي في أوروبا ، تعكس مرحلة جديدة من سياسة الشد والجذب بين موسكو وواشنطن، حيث تسعى الأولى إلى ترسيخ واقع ميداني وسياسي جديد يفرض على الغرب التعامل معها كقوة كبرى لا يمكن تجاوزها، فيما تحاول الثانية موازنة ضغوط الداخل الأمريكي مع متطلبات الردع الخارجي. وبين هذين المسارين، تبقى القارة الأوروبية هي ساحة التجاذب الأبرز وميدان اختبار حقيقي لصلابة التحالف الغربي في مواجهة الطموحات الروسية المتصاعدة.
مونيكا ويليام تكتب: رسائل القوة الروسية وإرباك الاستراتيجية الأمريكية