الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

في حب المحروسة


تعلمنا منذ الصغر أن الحياة في مصر تتميز بالبساطة والدفء ورح المرح والفكاهة الدائمة مهمة كانت الظروف وضغوط الحياة الا ان المصري يجد دائما ما يجعله يبتسم وينظر الي الحياة ببساطة وحب ، ليس هذا تصنعا منا بل انها طبيعة الحياة في ارض وادي النيل تفرض عَلِينا هذا وتجعلنا دائما في حالة من الدفيء والقناعة الممزوجة بالفخر وعزة النفس.

طبق الفول قد تغير شكلة كثيرا عن مدار السنين إلا أن أروع أشكاله بل تألقه الحقيقي يكمن في العربية الكارو التي يسحبها الحمار المصري الأصيل صاحب السلالة النادرة ويطوف كل صباح ليطعم أهالي المحروسة . رائحة الخشب والحمار الممتزجة برائحة طبق الفول والخبز البلدي الأسمر وحزمة البصل الأخضر تجعلك تشعر في كل صباح بالبهجة والسعادة، عصير القصب الذي يروي الظمأ ويغسل الكلي نفرح به ونشربه دائما وكأنه نخبًا في حب المحروسة.

النيل وما أدراك بالنيل هذا الشريان السحري الذي يفرز الحياة كلما اخترق الي الشمال هذا العملاق العنيف تعيش فيه الوحوش في أعماق افريقيا حيث منابعه إلا أنه حين يصل إلي الأراضي المصرية يصبح هادئا صاحب سلام وخال من الوحوش فتجد المصريين يخرجون اليه في أي وقت وفي كل يوم ليتأملوا سنوات العراقة التي تلتحف به.

 نجد الترمس هذه الحبوب المصرية تداعب شهية ابن النيل ومعها الملانة والحمص الحار والذرة المشوي والدوم والبطاطا هؤلاء جميعا لهم من العراقة والعمق في التاريخ المصري باعا طويلا فلم يبرحوا ضفاف النيل منذ آلاف السنين وكذلك القطط المصرية التي تأتي الي جوارك لتداعبك وتتملقق هي أيضا ضاربة في أعماق التاريخ بل كانت يوما ُتعبد في مصر القديمة وكذا الحال مع الكلاب المصرية ذات الشعر القصير والذكاء الحاد.

 إذا انت علي ضفاف النيل تجلس تتأمل الأفق وتستنشق العليل ولا تعلم أبدا أنك في حضرة التاريخ وعلامات اعظم حضارة عرفها الانسان تحيط بك وتسري في دماءك دون ان تشعر ، هناك الفقراء الذين لجاءوا الي النيل ليعيشوا فوق صفحته هائمين علي وجه المياة ياكلون من أسماكه ويشربون مباشرتا من مياه العذبة.

هو الاله القديم الذي يحتوي كل الأزمان بما فيها من بشر ومن أحلام وقصص وروايات عاطفية وإنسانية كثيرة، مصر بسيطة ولها حياة خاصة ومتفردة لن تجدها في اي مكانا اخر ، حتي البلدان الأخري التي يمر بها نهر النيل لا تمتلك نفس الطبيعة والخاصية التي تجدها في مصر اذا السبب هو الارض التي يمر بها النهر.

في مصر الناس تنظر الي بعضها كثيرا نظرات متغيرة وذات معاني متنوعة ، فقد لا تحتاج الي أوراق رسمية لتعرف ماهية شخصا ما وإنما يكفيك ان تسال الناس عن الشخص المراد وسوف تسمع منهم كلمات حقيقية تعبر بقوة عن ماهية هذا الشخص ، لا يتميز حي عن اخر في هذا السلو العجيب بل تجد آراء الناس صائبة دائما في الأحياء الراقية وكذلك البسيطة او الشعبية وليست العشوائية ، انها مصر ذات الطبيعة الفريدة تجد فيها التاريخ يخترق ابصارك أينما ذهبت وكذلك أسماعك فالكلمات العريقة ذات الأصول المتعددة التي ينطقها المصري في حياته اليومية تعبر بقوة عن عراقة وعظمة هذا الشعب الفريد من نوعه .

نعم نتكلم العربية وكذلك الفرعونية واليونانية والايطالية والفارسية والعبرية وفي بعض الأحيان اللاتينية ، نتحدث بجمل وأمثال ضاربة في القدم وإذا بحثت فيها تجد جذورا حقيقية لقصص وبطولات تاريخية كثيرة وشرح وافي بطبيعة حكام وسلاطين كانوا يوما يحكمون ام الدنيا ذهبوا ولكنهم بقوا في اعماق تراثنا اللغوي الثمين ، نقول يا سلام .

تعبيرا عن كل ما هو جميل ومتميز وهذه الكلمة ليست صفة كما يتخيل البعض بل هو اسم لأحد حكام مصر كان مشهورا عنه الاناقة والشياكة وحسن الكلام انه " سلامش بن الظاهر بيبرس "، نتحدث عن مرضعة قلاوون ولانعلم ان هذه السيدة كانت ترعي اعظم بل وأقوي من حكم مصر في تاريخها الحديث انه " الناصر محمد بن قلاوون " ، نتهكم علي قراقوش في كلامنا اليومي وذلك لأننا لم ننسي ابدا انه كان رجلا عنيفا ظالما كان يخدم سيده دون ان يراعي مصالح العامة من الناس .

ومازال الحاكم بأمر الله يرقد في اعماق وعائنا اللغوي الي يومنا هذا ، ومعه ام علي هذه الحلوي التي يعشقها اغلب المصريين كانت دليلا علي انتهاء عصر شجر الدر اعظم سيدة حكمت مصر والتي قامت ام علي بقتلها انتقاما لموت زوجها المعز إيبك، اسرار كثيرة كانت تحدث داخل جدران القصور والقلعة في كتمان شديد لكنها لم تصمد امام التاريخ المصري فخرجت الي العامة مع مرور الأيام واستقرت في اعماق الوعي الشعبي وأخذنا نرددها الي يومنا هذا وكاننا كنّا هناك يوم ان حدثت شهود إثبات عليها ، ما من شيء يختبيء الي الأبد في مصر ، اين ذهب الجبابرة وجحافلة الظلم والحكم في العصور الغابرة انهم يرقدون جميعا في القرافة الصغري والكبري بالقاهرة .

وداخل جدران المساجد التي تتوسط العاصمة والمدن المصرية الآخري وكذلك القري الصغيرة المنتشرة في ربوع مصر كلها ، اذا في مصر انت تعيش في بساطة ولكنك حاضرا تتوسط اسرار التاريخ بكل متنقضاته، من مصر خرج العلم الي البشرية من مصر خرج التمدن من مصر خرج التاريخ ليعلم الامم ان الريادة الحقيقية تكمن في الكنوز والنفائس الراقدة في بطن الارض وفي اعماق الانسان المصري . مصر بسيطة هه لكنها بالحقيقة " أم الدنيا.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط