الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

اغتيال ذاكرة أبو العلا


لم تكن حياته بالسهلة فقد ولد فى أسرة تعيش فى فقر مدقع وكبيرة العدد ويحكوا عن يوم ولادته فيقولون إن أمه كانت فى طريقها لزيارة أهلها فى المنوفية بعد فترة انقطاع طويلة كانت بسبب حياء أمه أن تذهب إلى أهلها خاوية اليدين لأن زوجها كما يقولون على باب الله . 

كانت أمه وكان اسمها فردوس حاملا فيه فى شهرها الأخير وفور أن خطت خطوات من بيتها فى بولاق أبو العلا وبجوار مسجد السلطان أبو العلا جاءتها الأم المخاض وظلت تصرخ ليلتف عليها أهل منطقتها ويحاولون أن يعودوا بها إلى بيتها لتلد فيه إلا أن ارادة الله تقضى أمرا كان مفعولا وتلد فردوس ابنها وتيمنا بالمكان تسميه أبو العلا. 

يكبر أبو العلا فى أسرة عاهلها الأب الذى يعمل حارسًا فى إحدى الشركات الخاصة ليلا وماسح أحذيه فى الصباح لكى يوفر لأبنائه الكثر قوت يومهم الذى يصبح عسيرا مع مرور السنين التى تركت ظلالها عليه وجعلته يبدو كهلا مع انه لم يكمل الخمسين او ناهزها ، يموت ابيه ويحضره اهل الخير الى البيت الذى يسكن فى شقة منه ذات حمام مشترك مع اهل البيت العتيق كما كان يحلو للسكان ان يطلقوا عليه هذا الوصف ، بموت الاب زادت قسوة الحياة على هذه الاسرة لتجبر امهم على ان تبيع امام المنزل بعض من الخضروات علها توفر لاولادها لقمة عيش تشبع هذا الجيش ومن بينهم ابو العلا الذى اكمل عشرة اعوام وكانت تربطه بأمه علاقة مميزة عن اخوته كلهم فقد كان يمتاز بالحنية والخوف على امه بصفة خاصة واخوته بصفة عامة مع انه لم يكن كبيرهم ، يرفض ابو العلا ان تعمل امه ويصر على ترك المدرسة والعمل فى ورشة عم احمد الميكانيكى وبالفعل تصبح حياة ابو العلا كلها لامه واخوته ويعلم من اراد التعليم ويزوج من جاءها ابن الحلال ،طيلة خمس وعشرون عاما بعد هذه العشرة التى خرج اثناءها من المدرسة لم يدخر ابو العلا وسعا لاسعاد اسرته حتى انه رفض ان يتزوج قبل ان يزوج كل اخوته العشرة ذكورا واناثا وايضا اخذ امه لتعتمر وتحج معه وفى حجه مع امه عاد وحيدا فقد ماتت فى الاراضى المقدسة واقتطعت بموتها جزءا كبيرا من قلبه الشغوف بها ، اخوته كانوا من جانبهم يرددون عليه ليل نهار ضرورة زواجه لانهم يخافون عليه من الوحدة بعد موت امه وانشغال كل منهم بحياته وينجحون فى اقناعه بالزواج الذى تاجل كثيرا من اجلهم وينعم عليه المولى بفتاة جميلة جارة له ومن اسرة لاتختلف كثيرا عن اسرته فمعظم من يعيشون فى بولاق ابو العلا هم من اهل رزقهم عند الله ولهم اناس ارسلهم الله لهم ينعمون عليهم بما انعم عليهم المولى من اموال وملبس ومأكل تمضى الحياة بأبو العلا الذى يطلب من زوجته تنظيم النسل حتى لاتتكرر مآساته وحتى يتمكن من جعلهم يعيشون حياة افضل من التى عاشها .
ابو العلا كان محبا لمنطقته حافظ كل شبر فيها وله فى كل جزء منها ذكرى وذكريات ففى حواريها وازقتها لعب مع اقرانه وفى مسجدها صلى وافطر فى ايام رمضان التى تحمل لونا وطمعا مميزا ، كل ركن له فيه حكايات وروايات جعلته يرفض رفضا تاما ان يسمع مطالب زوجته بترك المكان واخذ شقة فى المدن الحديدة وخاصة ان احواله المادية ميسرة من عمله فى الورشة التى صارت اشبه ماتكون ملكه بعد وفاة مالكها وتوليه هو كل امورها مع التزامه بارسال نصيب المالك لورثته . سنوات تمر وابو العلا كما هو رافضا النزوح من بولاق مفضلا اياها عما سواها ، ولكن تتغير الاوضاع وتقرر الدولة تحويل ابو العلا الى منطقة حديثة تستبدل بيوتها وورشها وكل مافيها الى ابراج ومنتديات وكافيهات اى جعلها منطقة تليق بما تجاوره من مبنى للاذاعة والتلفزيون ووزارة للخارجية شهباء مصممة على ارقى تصميم على شكل زهرة اللوتس ذات التاريخ الفرعونى، مشاورات تليها اخرى مع المالكين الجدد تحمل كل لغات الارضاء والتعويض الوفير ويرضخ الكل الا ابو العلا الذى يبكى ويقول لكل من حوله كيف اترك عمرى كله كيف تسمحون بان تغتال ذكرياتى وذكرايا اذا اردت ان استرجع عبق مكان وذكرى موقغ اين اذهب ...
لا لن ابرح ابو العلا اذهبوا انتم وانركونى مع روائح امى وتعاليم ابى وشذا اخوتى وكلمات اصدقائى وضحكاتهم واحزانهم .تصر اسرة ابو العلا على النزوح وتعده بانهم سيمضون عقد يكفل لهم العودة بعد اتمام البناء فينظر اليهم ابو العلا ويقول حتى ان عدنا فسنكون غرباء لانها لن تكون موطننا الذى عشناه وعشنا فيه ستكون منطقة اخرى يعيش فيها اناس اخرين لايعرفوننا ولايريدون ان يعرفوننا وان تنازلوا وتعرفوا علينا فستكون نظرتهم لنا دنيا . تكل اسرة ابو العلا منه ويحزمون امتعتهم أسوة بما فعلته كل الاسر التى رحبت بالانتقال وفرحت بالتعويض المادى. الضخم يمشون كلهم ويتركون ابوالعلا بين انقاض المنازل المدمرة وبقايا الذكريات المبعثرة .
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط