الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

هند العربي تكتب: "المجنون" الذي مات عشقا!!

صدى البلد

"أَمُرُّ عَلى الدِيارِ دِيارِ لَيلى ......أُقَبِّلَ ذا الجِدارَ وَذا الجِدارا وَما حُبُّ الدِيارِ شَغَفنَ قَلبي .. وَلَكِن حُبُّ مَن سَكَن َالدِيارا".

شعر أطلقه "مجنون ليلي" كما لقب.

ألا وهو قيس بن الملوح، شاعر غزل والذي أطلق عليه "مجنون ليلى " ولد عام 645م، وهو أحد القيسين الشاعرين المتيمين والآخر هو قيس بن ذريح "مجنون لبنى"، أما عن قيسنا المجنون حديث المقال "ابن الملوح" ففي الحقيقة لم يكن مجنونًا وإنما لقب بذلك لهيامه في حب "ليلى العامرية" بنت مهدي بن سعد، وهي أم مالك العامرية، تنتمي إلى بني كعب بن ربيعة، يذكر أنهما كانا من قبيلة واحدة، وقيل إن بداية حبهما كانت منذ الصغر؛ إذ أحبا بعضهما البعض عندما كانا يرعيان الأغنام، ولكن بعدما كبرا افترقا، ويقول البعض ان ليلى قد توفيت قبل قيس، تلك الفتاة التي نشأ معها وعشقها فرفض أهلها ان يزوجوها به، فهام على وجهه ينشد الأشعار من شدة حبه لها ويتغنى لذلك الحب العذري، ذلك الحب الذي عاشه العرب في عصورهم الإسلامية الأولى فكان حبا ليس فيه إثم ولا جناح، ولا فسوق، ولا حرج، ولا خيانة، ولا عار، ولا خطيئة، ولا ريبة، إنما فيه الوفاء، والصفاء، والعفاف، والطهر والنقاء، وفيه كان يحتفظ المحبون بكرامتهم مهما ألح عليهم الحب، وتحتفظ الفتاة بجلالها ووقارها مع رقة العواطف ورهافة المشاعر.

وعن قصة حب قيس وليلي الأسطورية والتي تغني بها كل العاشقين الملهمين بهما، يقال إن قيس بن الملوح هو في الحقيقة ابن عم ليلى، وقد تربيا معا في الصغر وكانا يرعيان مواشي أهلهما ورفيقي لعب في أيام الصبا، كما يظهر في شعره حين قال:

"تعلَقت ليلى وهي ذات تمائم ولم يبد للأتراب من ثديها حجم صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا إلى اليوم لم نكبر، ولم تكبر البهم".

أحبا بعضهما البعض وكبرا سويًا فكانا بحق رفيقين في الطفولة والصبا فعشقها، ولكن كانت الفاجعة وكالعادة في البادية، عندما كبرت ليلى حجبت عن حبيبها، وهكذا نجد قيس وقد اشتد به الوجد يتذكر أيام الصبا البريئة ويتمنى لها أن تعود كما كانت لينعم بالحياة جوارها، وهام قيس على وجهه ينشد الأشعار المؤثرة التي خلدتها ذاكرة الأدب له في حب ابنة عمه كما يؤكد العديد أن ليلي كانت ابنة عم قيس وظل يتغزل بها في أشعاره، ثم قدم قيس علي خطبتها بعد أن جمع لها مهرًا كبيرًا وبذل لها خمسين ناقة حمراء، فرفض أهلها أن يزوجوها إليه، حيث كانت العادة عند العرب تأبى تزويج من أي تغزل بها في شعره! فالفكرة عند العرب قديمًا تقول أن تزويج المحب المعلن عن حبه بين الناس عار وفضيحة، وهذه عادة عربية جاهلية ولا تزال هذه العادة موجودة في بعض القرى والبوادي، إلا ان هناك رواية أخري تقول إن سبب رفض زواج قيس من ليلي كان بسبب الخلاف الواقع بين والده ووالد ليلى "عمه" حول أموال وميراث، وإن كان الرأي الأول أرجح وأثبت من رواية الميراث والخلاف.

وفي نفس الوقت قد أقدم شاب آخر لخطبة ليلي يدعى ورد بن محمد العقيلي، وقدم مهرا يبلغ عشرًا من الإبل وراعيها، فاغتنم والد ليلى الفرصة ووافق علي زواجها من هذا الغريب رغمًا عنها، وبعدها رحلت ليلى مع زوجها إلي الطائف، وبعد أن صدم قيس ورفض من أهل ليلي ظل ينام في الصحراء يقول الشعر فيها، تاركا خيمة أهله وعاش مشردا ومن وقتها لقبوه "بالمجنون" وظل على هذه الحالة، وكانت هناك فتاة من قبيلته تأخذ له الطعام كل يوم وتضعه له في الصحراء، وتأتي باليوم الثاني كي تأخذ الوعاء فارغا، وفي يوم ذهبت تأخذ الوعاء فوجدته على حاله، فأسرعت وأخبرت أهل قيس بما جري له، وخرج الأهل يبحثون عنه حتي وجدوه في واد كثير الحصي وقد توفي ووجدوا بيتين من الشعر عند رأسه خطهما بإصبعه هما:

"تَوَسَّدَ أحجارَ المهامِهِ والقفر ِوماتَ جريح القلبِ مندملَ الصدرِ فياليت هذا الحِبَّ يعشقُ مرة ًفيعلمَ ما يلقى المُحِبُّ من الهجرِ".

فقد كانت نهايته حزينة حزنا علي محبوبته وبعدها توفي عام 688م، وقد وجد ملقى بين أحجار وهو ميت، فحمل إلى أهله مجنون ليلى!!

أما عما أحدثه شعره وكلماته في الأدب العربي والغربي، تجد أن ديوان شعره في عشقه لليلى ولقصة "مجنون ليلى" التأثير الكبير في الأدب العربي بشكل خاص كما كان له تأثير في الأدب الفارسي حيث كانت قصتهما تعتبر من إحدى القصص الخمسة لـ بنج غنج أي كتاب الكنوز الخمسة للشاعر الفارسي "نظامي كنجوي"، كما أنها أثرت في الأدبين التركي والهندي.

ومن أشهر قصائده قصيده "المؤنسة" وقيل سميت بذلك لأنه كثيرا ما كان يرددها ويأنس بها وأول هذه القصيدة يقول في أحد أبياته في حب محبوبته : "ألستَ وعدتني يا قلبُ أني .. إذا ما تُبتُ عن ليلى تتوبُ ؟
فها أنا تائبٌ عن حبِّ ليلى .. فما لكَ كلَّما ذُكرت تذوبُ ؟
وما لكَ قد حننتَ لوصلِ ليلى .. وكنتَ حلفتَ أنك لا تؤوبُ ؟
بلى قد عُدتَ يا قلبي إليها .. فهذا الدمعُ منسكبٌ صَبيبُ
يخَبِّرُ أنَّما الأشواقُ نارٌ .. وتحت النارِ أضلاعٌ تذوبُ".

وحتي لو صدقنا من ادعى أن قصة قيس وليلى لا أصل لها أو أنها أسطورة وقد روى القصة عدة رواة في العصر الأموي وبداية العصر العباسي في فترة زمنية قريبة من الفترة الزمنية التي يفترض أن القصة قد وقعت فيها، وعلي أي حال فقد كانت تعبيرا عن حالة اجتماعية مقبولة من الناس في ذلك العصر، ولم يستبعدوا حدوثها آنذاك، وحتي لو صدق القول انها أسطورة فإن ذلك لا يقلل من أهميتها الأدبية وليس معناه أن قصص الحب الخصبة قد عافي عليها الزمن فالحب موجود في كل وقت وزمان ولكن العشاق منهم من أصابهم الجحود وآخرين بالخذلان.

وفي النهاية ... قصة قيس بن الملوح وليلى العامرية، قصة عربية قديمة مشهورة، تحاكي أروع وأجمل معاني الحب والعشق التي عاشها العاشقان والتي من الصعب ان تجمع أحداثها وتفاصيلها هذا الزمان أو أن يكون في المحب ما كان في قيس من صفات، فقد تميزت هذه القصة بعمق مشاعر الحب، والإصرار والإيمان بالحب دون كلل او ملل بل ومن أجل الوصول الي نهاية هذا الحب العظيم بالزواج ولكن لعب القدر أصعب الأدوار ليفرق بينهما دون ذنب اقترفاه، قصة تعلمنا كيف يحارب المرء كل الظروف للوصول إلى ما يود أن يصل إليه، إلا أن مسعى قيس بن الملوح في زواجه من ليلى وفشله في ذلك ما دفع به إلى الجنون، ونري ان هناك من الشعراء من استغل واستعان بهذه القصص الأسطورية لتوظيفها في أعمالهم الأدبية، ولا سيما مسرحية "مجنون ليلى" للشاعر الكبير أحمد شوقي.

قصة حب قيس وليلي أصبحت مثالا لقصص الحب العذري الرفيع الذي تناقلها العرب جيلا بعد جيل، وأصبح مجنون ليلى علما أسطوريا من أعلام العشق، بل العاشق المثالي الذي يعرفه الجميع، بل صار عشقه مثالا رفيعا من أمثلة العشق الصادق الطاهر البريء، ولعل أفضل ما نختم به المقالة قول الملوح حين افصح: "أحبك يا ليلى على غير ريبة... وما خير حب لا تعف ضمائره".