الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

العامية المعذبة تواجه رياحًا عاتية!


كثيرًا ما انتظرت بشوق برنامج الشاعر الكبير فاروق شوشة (رحمه الله) "لغتنا الجميلة" الذي كان يستهل مقدمته ببيت شعر لحافظ إبراهيم: «أنا البحرُ في أحشائِهِ الدرُّ كَامِنٌ...فَهَلْ سَأَلُـوا الغَـوَّاصَ عَـنْ صَدَفَاتـي»؛ ولا زالت كلمات الدكتور طه حسين ترن في أذني: «لغتنا العربية يسر لا عسر، ونحن نملكها كما كان القدماء يملكونها، ولنا أن نضيف إليها ما نحتاج إليه في العصر الحديث». لعل تلك الكلمات تشير إلى ثراء اللغة العربية ومرونتها وقدرتها على نحت عبارات وكلمات جديدة تتماشى مع العصر، أو استيعابها للمصطلح الأجنبي بعد تطويعه لها. ولا يعني كلامي هذا أن اليسر الذي قصده طه حسين يسر مطلق، فهناك إشكاليات لغوية تواجه اللغويين بحق، لعل سببها الرئيس عدم إتفاق اللغويين العرب على توحيد المصطلح؛ وليس أدل على ذلك من كلمة Mobile التي عرفناها منذ ما يقرب من عشرين عامًا، فقد عرفها اللغويون بالهاتف المحمول، والجوال، والخلوي، والنقال؛ وبرغم هذا آثرت الأغلبية إستخدام كلمة الموبايل، ولتذهب تعريفات اللغويين إلى الجحيم.
ومن التقليعات التي أصابت لغتنا الجميلة في أواسط القرن العشرين، تقليعة الفرانكوآراب، وهي أغان عربية تتخللها كلمات وعبارات أجنبية تُكمل نص الأغنية، مثل بعض أغاني المطرب الكبير عبد العزيز محمود، والفنان الشعبي عمر الجيزاوي الذي تغنى بمونولوج يجمع ما بين الفرنسية والعربية في قالب ساخر.
كان الفرانكوآراب مجرد تقليعة وولت، مثلها مثل تقليعة الخنافيس وغيرها، بعد أن قدم تركيبات لغوية مختلطة تداولتها العامة دون إدراكها أن ذلك يصيب لغتنا العربية في مقتل؛ فقد أثر سلبًا -ولو لفترة من الزمن- على مذاق اللغة العربية وجودتها؛ وظهر بيننا من تعمد أن يلوي لسانه ويقحم ألفاظًا أجنبية في حديثه مُعرضًا عن إستخدام المقابل العربي، كأن يقول: "عندك باك جراوند عن الموضوع"! أو أن يقول: "العصير ده تيستي والأكلة واااو دِليشيص". قبح الله من لم يخبرني بأن "باك جراوند" تعني "خلفية"، و"تيستي أو دِليشيص" تعني "لذيذ" أو "طِعم"!
أتخيل أن لغة أبناء الذوات في العهد الملكي، وكانت الفرنسية، أضفت بعدًا أرستقراطيًا عليهم جعلنا نحلم-ونحن لسنا منهم- أننا سنجلس يومًا في قاعة طعام فخمة، نتحدث الفرنسية على العشاء، ونمسك الأدوات بأطراف أصابعنا، وكأننا أولاد "البرنس" أو لوردات تيتانيك.
ولَّت الملكية، وظلت تقليعة اللسان الملتوي بداخلنا كامنة، فأخذ البعض يحاكي أولئك الذوات، ولكن بطريقة "فيومي"، فجاءت الفرنسية أو غيرها على لسانهم باهتة، وأضحت العربية لديهم غير شامخة، وأصبحت لغتنا اليومية مشوهة الملامح.
تطرقنا في إتحاد كتاب مصر إلى العربية المُعذبة -كما يسميها صديقي الحميم موسى الحالول- فخرج من بيننا قائل: لا أخشى على العربية الفصحى لأنها محفوظة بنص الكتاب: ﴿إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون﴾، لكنني أخاف على العامية المصرية من التآكل وزوال البيان عنها. نظرنا إلى بعضنا البعض، وبادرتهم قائلًا: سأكتب عن العامية المعذبة التي تتآكل يومًا بعد يوم.
لا ينكر المرء أن العامية المصرية لغة أحبها العرب جميعًا، وقتما كان للفن والإعلام المصري الفضل في نشرها بينهم خلال القرن الماضي. والمتأمل لمفردات العامية المصرية آنذاك سيجد أنها نجت من ظاهرة الغزو اللغوى التي اجتاحت دولًا عربية شقيقة خلال القرن العشرين بسبب الإستعمار؛ بيد أن هذه الظاهرة بدأت تهاجمنا الآن، ونحن نعيش عصر الفضائيات والإنترنت، أو عصر ما بعد الحداثة، لأسباب يطول شرحها.
تذكرت زملاء لي وهم يقولون "هنفرورد الفايل ونكنسل الميوزيك"، و"المقصود "سنمرر الملف ونلغي الموسيقى"؛ أو "هاصَّطب البروجرام" والمقصود "سأُحَّمل البرنامج"، و"تعالى نلعب جَيم" أي "تعالي نلعب لعبة"، و"جيم أوفر" أي "اللعبة انتهت". هذه مجرد أمثلة لغزو حقيقي يجتاح الآن العامية، التي نألفها وتشكل جزءً من هويتنا المصرية. كما قام أولادنا بنحت مصطلحات خاصة بهم، لا أصل لها، منها "نفض له"، "إحلق له"، "هارش"، "إفكس له"، "بنت بطل"، "واد سيس" وغيرها. وإذا ما أضفنا شفرات المهن التي لا يعرف سرها إلا أبناء المهنة الواحدة، تصبح الطامة كبرى.
لقد هبت ريح صرصر عاتية على لغتنا الجميلة، بشقيها الفصحى والعامية، من حيث لم نحتسب، غير أن الفصحى لها رب يحميها، والعامية لها أمة تُشقيها. فهل من سبيل أمام مجمع اللغة العربية أن يحفظ العامية الأصيلة، مثلما يحفظ الفصحى الجميلة؟
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط