الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

همسات


* كانت الشهامة المصرية بصفة خاصة مثار اهتمامي وإعجابي طوال سنوات التِرحال, ولقاء مختلف الجنسيات والتي كانت أول ما تلفت النظر لنا كمصريين هي عزة النفس التي نتحلى بها, والصدق في التعامل, والذكاء والهمة, وكانت كلمة شهم تُطلق على من هم أحرص الناس على القيام بالأعمال العظيمة, وأتذكر ما قاله الفيلسوف و الشاعر "إبن مسكويه" و هو أول علماء المسلمين الذين كتبوا في علم الأخلاقيات بمفهومه العلمي والفلسفي، من خلال كتابه 'تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق.

حيث ذكر أن الشهامة هي: "الحرص على الأعمال العِظام توقعًا للأحدوثة الجميلة", وقيل هي: عزة النفس وحرصها على مباشرة أمور عظيمة، تستتبع الذكر الجميل. وكانت الصفة اللاصقة بالمصري في الخارج أنه شهم, يتميز بالعِزة والافتخار, وتنتشي الحواس بمجرد سماع الكلمة, وينتفخ الصدر وتعلو الهامة, ويرتفع الكتفين فخرًا واعتزازًا, كان الماضي يحمل فينا ولنا صفات حميدة وراقية, بجانب المودة التي كانت تتعاظم في العلاقات الإنسانية, والأُلفة التي كنا نشعر بها مع الآخرين؛ سواء جيران أو أقارب, فالكل يحتاج للكل, ولا يمكن للحياة أن تستقيم بدون تلك المودة, وسمو العلاقات الإنسانية بين الإثنين في البيئة الواحدة. وكانت علاقات الجيرة تمتد داخل الأسرة, وأذكر أننا كنا نتذوق أطباق مختلفة في الوجبة الواحدة عن طريق الجيران, فكل جارة كانت تُعد طعامًا مميزًا كانت قبل أن تتناول منه أسرتها ترسل نجلها بطبق لجارتها التي تقطن في الشقة المجاورة, وجارتها التي تقطن في الأسفل أو الاعلى, وكانت أمي تتبادل مع أقرب الجيران أطباق الغداء؛ محبة في أن تتذوق جيرانها ما تطهيه, وكذلك كانت تفعل الجيران, وهكذا كانت الأمهات تتبادل الأطباق مع بعضها لتضم السفرة أكثر من نوع, عن طريق التواصل مع بعضهن, هذه تُرسل وتِلك تستقبل, ثم ترسل لها من خيرات الله. كانت تلك العلاقات تزيد من مودة الجيران بعضهم لبعض, وتنتقل في العلاقات الخارجية لكل الأبناء مع الآخرين, فلم تكد تسمع عن مشكلة ما لأحدهم إلا وتجد البيت مزدحم بالجيران قبل الأقارب, كانت الأرواح متقاربة, ومتآلفة مع بعضها, والنوايا حسنة, والقلوب صافية لاستقبال كل كلمة بروح الحب, الذي نما في القلب من بذور تلك العلاقات الإنسانية, كان الجار أول من يلحق بك عندما تشعر بالألم, وأول من يُؤثرك على نفسه, كان أول من يهنئك في الأعياد, وأول ابتسامة تجدها في قلبه قبل عينيه, وكان الأخ الكبير بمثابة الأب, وكان الأب اسطورة احترام, والأم جنة الدنيا . تكتظ البيوتات في المناسبات بأفراد العائلة والأصدقاء, وتظل الأيام تتلاحق في سعادة, وتشدو الجدران بنغمات الفرحة, لاستقبال القلوب السعيدة المتألفة, لم يكن الكبير يحتاج أن يستخدم قوته ليفرض رأيه, أو ليشعر الآخر أن له سلطة, بل على العكس كانت سلطاته مستمدة من احترام يكنه الأصغر سنًا له في الجلسات واللقاءات, كان احترام نابع ونابت من تلك البذرة التي نما ونشأ عليها في التقارب الإنساني, الذي ذاب فيه منذ الصغر. أذكر أنني كنت أُدخن بشراهة غير أني لم أكن أجرؤ أن أُظهر علبة سجائري أمام أخي الكبير -أطال الله عمره- الذي جلس في قلوبنا على مقعد الأب - الذي رحل مبكرًا عنا - و مهما طال بنا الوقت وهو جالس لم أكن أشعر بتلك الرغبة في إشعال سيجارة تلو الآخرى, مثلما كنت أفعل فى عدم وجوده, ليس خوفًا منه ولكن احترامًا لا يعرفه إلا من اعتاد وتربى عليه, وأكرمني الله بالأم الغالية "الحاجة ياسمين الخيام" وكنت أعد لها برنامجها الشهير "صحبة ياسمين"؛ الذي كانت تقدمه على قناة "CBC", وكنت لا أجرؤ أيضًا على إظهار علبة سجائري أمامها, غير أنني نسيت ذات مرة ونحن نخرج من الاستوديو وأظهرت علبة السجائر, فما كان منها إلا أن أخذتها ومزقتها أمامي, داعية الله لي أن يقيني شرها ويحفظني منها, ولم أشأ أن اتنفس بكلمة, بل خفضت رأسي إحترامًا لها, واعتذرت لها, ولا أدري لماذا اعتذرت حينها ؟ واستجاب الله لدعائها وأعانني على منعها . الآن أصبح الاحترام للكبير في ظل العلاقات الإنسانية غريب, وأصبحت فوضى العلاقات والاحترام هي السائدة, وأصبح الجيران لا يعرفون بعضهم البعض, وإن عرفوا لا يبالون ببعضهم, وأصبحت الأعياد قاصرة على الأسرة فقط, واختفت اللمة الحلوة. 
الأن تبكي روحك وأنت ترى أو تسمع عن الأخ الذي قتل شقيقه, والإبن الذي قتل والده أو والدته, والصديق الذي طعن صديقه في ماله أو شرفه, و الزوج الذي يهين زوجته وتشتعل المحاكم بكم القضايا بين الزوجين التي من المفترض أنها علاقات من نبت المودة . أصبحت العلاقات الإنسانية غريبة, أصبحتُ أنفر من رؤيتها, أو السماع عنها, أو الكتابة عن جرائمها, تحولت الصداقة لمصالح وبيزنس, لم يعد هناك ذلك الصديق الذي تجلس إليه وكأنه الحبيب, تُفضي إليه بما تئن, تجلس تناجيه ويناجيك, ويلتمس داخلك إحساسك بكل ألم. الآن تسمع عن الأم التي أنجبت وسهرت وربت وزوجت الرجال, وأصبح لكل واحد منهم شأن, ويريدون طردها من بيتها, ويرفضون شراء روشته العلاج لها, بعد أن تنازلت لهم عن كل شئ, وترى الأخ الذى يُقدم بلاغًا ضد شقيقه يتهمه اتهامات قاسية, ويقدم الأدلة المزيفة ليحبسه قبل أيام العيد بسبب الخلاف علي الميراث , وتجد التفكك بين أبناء الاسرة الواحدة وتجد الصديق الذي ينهش في الأعراض, ويكون أول من يسئ لصديقه. الآن فقد الكثير شئ إسمه الإحترام, وأصبح الصغير يستمتع بنبرات صوته المتعجرفة وهو يتحدث مع من هو أكبر منه سنًا, لم تعد ترى في معظم الأماكن مشاعر الإحترام للآخر مهما كان عمره . مصطلحات بدأنا نسمعها بقرف, التعالي والتكبر, وإنت مش عارف أنا مين؟ وأنا إبن مين؟ وكبَّر دماغك, بلاش حوارات سوسو, وللأمانة أنا لا أعرف من هي سوسو, التفاهم أصبح يفتقد ثقافة النقاش والخلاف, لم يعد أحد يتحمل أن تكون على خلاف معه, فمثلًا إن أنت كنت مؤيدًا للنظام فأنت تبحث عن مصلحة ودور في الظهور أو مطبلاتي, وإن أنت كنت معارضًا فأنت عميل وغير واع بقضايا الأمة, لماذا لا نحترم عقولنا؟ لماذا لا نحترم ونحترف ثقافة الخلاف في النقاش؟ لماذا لا نحترم آراء بعضنا؟ تحت مسمى الرجولة نسُب ونشتم الآخرين, وبدون أسانيد, ونُكيل الاتهامات ظنًا منا أن في ذلك قوة لنا, وفي مواقع التواصل الاجتماعي أصبحت الاتهامات تُكال للشرفاء دون سند, وللأسف أصبح البعض ينساق وراء مدعي الشرف, وبدون التحقق من الاتهامات.
أفرزت الأيام والسنوات الماضية عناصر أقل ما تُوصف بأنها فساد أخلاقي؛ نتيجة سوء التربية وافتقاد القدوة في البيت, وافتقاد روح وشهامة الأب, فحين تتخلى القدوة عن الدور الحقيقي لها في التربية يسود المجتمع كل شئ, افتقدنا القدوة في البيت لأن رجل البيت أصبح يدور في فلك البحث عن توفير المتطلبات المنزلية , متناسيًا الهدف الرئيسي لوجوده في قلب الأسرة, وأصبح كلًا منا في وظيفته يبحث عن المال فقط, وتناسى دوره الطبيعي في تنمية الجوانب والعلاقات الإنسانية. المعلم الصادق الذي يبث القيم في نفوس طلابه ويعالج الجهل أصبح له شغل شاغل فقط هو المال , الطبيب الذي يعالج ويؤسس صحة وجسد الإنسان أصبحت الفيزيتا أهم من علاج المريض, والأمثلة كثيرة في كل الوظائف التي نتولاها, ونحمد الله أنها ليست ظاهرة عامة تسود , لكنها نماذج كثيرة فقط موجودة في مجتمعنا الذي سيظل الخير به إلي يوم الدين.
ولكن يجب أن نهتم بتلك التغيرات التي طرأت علي أخلاقنا نحن المصريين و لابد أن يفرض السؤال نفسه الآن : 
ماذا حدث لأخلاق البعض منا؟ 
وما هو واجب الجميع لعودة الزمن الجميل ومن أين نبدأ ؟ 
في رأيي أن محاور العودة لأخلاق المصري الأصيل يجب أن تبدأ من دور العبادة التنويرية فالأصل : 
الدعاة, البيت, المؤسسات التربوية.


المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط