الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

آخر الأبحاث في الحسد والحقد


عرف الحسد والحقد منذ أن قتل قابيل أخاه هابيل وهما ولدا آدم، ووصية يعقوب لابنه يوسف "يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا" (يوسف 5)، وذكر الحسد في مواضع كثيرة في القرأن الكريم "أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله" (النساء 54)، "ومن شر حاسد إذا حسد" (الناس 5)، وفي الإنجيل "المحبة لا تحسد" (بولس 4:13).. وإلى يومنا هذا والنفس البشرية لم تتغير.

فما الجديد في موضوع قديم كهذا؟ الجديد أنه أواخر عام 2018 تم اكتشاف مراكز للحقد والحسد في مخ الإنسان ضمن مناطق النفس وذلك من خلال تقنية الرنين المغناطيسي الوظيفي، وهذا سبق علمي مهم دفعني لتناول هذا الموضوع بأسلوب جديد ومفيد.

علميا، يخرج المولود إلى الدنيا وعقله خاليا إلا من علاقة هرمونية بسيطة تربطه برائحة أمه والتغذية منها، والعجيب أن أول سلوك يظهر على الرضيع في حياته بدءا من الشهر الرابع هو الغيرة، فنراه يبكي إذا حملت أمه طفلا آخر أو انشغلت عنه بالحديث مع غيره، ويفسر العلماء ذلك بأن الرضيع في هذا السن بدأ يفهم معنى الاهتمام وبدأ يعرف السخط على الآخرين.

في مرحلة لاحقة، يختلط الطفل أكثر في الروضة والمدرسة ويدرك معنى المقارنة والمنافسة، ولا إراديا تتولد عنده مشاعر أكثر تعقيدا كالحسد والحقد من مواقف كثيرة يتعرض لها وتتكرر معه إلى آخر العمر، وكل هذه السلوكيات غرائز طبيعية تلازم تطور البشرية، والغيرة على الأخص أمر لا مفر منه في منافسات العمل والحب والصداقة وكل أمور الحياة.

ولأن الخالق سبحانه أفرد للنفس مراكز كثيرة في المخ تنبعث منها نبضات كهربية باستمرار، فلا يمكن اعتبار جميع زلاتها أمراضا أو نقائص تصيب النفوس الضعيفة أو المريضة فقط كما يصورها البعض، لأن الكثير من هذه المشاعر يكون مدفوعا بغريزة البقاء، ومبرر أحيانا كرد فعل ونتيجة عقلانية لغياب العدالة وتفشي الظلم، وتختلفت عن الأمراض النفسية الحقيقية، إلا أنها قد تتطور إليها في حالات قليلة جدا. 

لو لم يخلق سبحانه وتعالى مراكز في المخ للحسد والحقد كتلك التي أشرنا إليها، لنشأ الإنسان وعاش في الحالة الإيمانية المثالية التي فيها الكل يحب لأخيه ما يحب لنفسه، لكن المخ البشري لا يعمل بهذه الطريقة، ومن شبه المستحيل حدوث ذلك في وجود تلك المراكز كما يقول علماء الغرب، إلا في حالة الأب فقط هو الذي لا يحسد ابنه لآن عاطفة الأبوة عنده تطمس كهرباء هذه المراكز.

مراكز المخ كلها من الأشياء التي خلقها الله وترك لصاحبها الحرية في استخدامها، وبضمنها النفس، يولد بها الطفل خالية لكنها هي من تختار أسلوبها لاحقا لتكون مطمئنة أو لوامة أو أمارة بالسوء، وجهاد النفس جهاد أكبر، لذاِ شددت الرسالات السماوية على كبحها ومقاومتها ومحاولة وضعها على الطريق الصحيح، ومعلوم أن مناطق النفس في المخ تختلف عن مناطق العقل، فمثلا، العقل لا يقبل أن يكون 1+1=3 ويقول أن هذا مستحيل ويأتي بالدليل، أما النفس فلا مانع عندها من ذلك.

والحسد درجات، فهناك حسد مقبول يسمى الغبطة، وهي تمني الشيء للنفس دون تمني زواله عن الآخرين، أما الحسد المكروه فهو تمني زوال النعمة عن الغير والرغبة في الحصول عليها، وعندما لا يحقق الحاسد مبتغاه، يشعر بمرارة وغصة في القلب تسمى الحقد، ويتولد عنده شعور آخر هو الشماتة، وهي السعادة لمصائب الآخرين.
 
ولعلماء الغرب تقسيم جميل للحسد، إذ قسموه كما تقسم الأورام إلى حميدة وخبيثة.. الحسد الحميد شعور داخلي لا يظهره الحاسد بل يستخدمه كدافع للتطور والمنافسة الشريفة، أما الحسد الخبيث فيظهر على صاحبه قولا وفعلا وقد يدفعه إلى ارتكاب جريمة، وهذا هو جانب الشر في الحاسد. 
 
ولم يجد العلماء فرقا في معدلات الحسد بين الرجال والنساء، لكنه يشتد في سن المراهقة، وغالبا ما يكون الحاسد غير سعيد أو راض عن نفسه، وفي دراسة حديثة ثبت أن الفيس بوك يزيد من فرص الحسد لكثرة ما يعرض فيه من نجاحات وسفر وزواج وإنجاب، فليست كلها تؤخذ لمجرد العلم أو ينظر إليها بعين الرضا.

إذن، الغيرة والحسد "الحميد" غريزتان لا مفر منهما بل وضروريتان لتطور البشرية كما ذكرنا، تدفعان صاحبهما دائما لتحقيق الأفضل، ويجب تسخيرهما عقلانيا وأخلاقيا للحفاظ على ما في اليد وتطويره.

وختاما لا يفوتنا التحذير من استخدام الحسد كشماعة يعلق عليها الفاشل خيبته، أو ينشر مفاهيم فيها تجاوز على إرادة الله وأحكامه العادلة مثل "العين تفلق الحجر" و"يدي الحلق للي بلا ودان"، مثل هذه الأقوال لا تصح ولا تليق، فلا يعقل أن تتحكم عيون البشر في قضاء الله، أو أن يهب الله لعبد شيئا بلا هدف.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط